مالي : هل دقّت ساعةالحسم بتوقيت الجزائر؟

تحقيق صحفي – إعداد:
محمد عبد الرحمن ولد عبد الله
كاتب صحفي ، أنواكشوط
مالي… الدولة التي أكلها أبناؤها
لم تعد مالي، الدولة الإفريقية التي كانت توصف يومًا بـ”قلب الساحل النابض”، سوى خريطة تائهة بين العسكر والتمرد والجوع. فبعد سلسلة من الانقلابات العسكرية المتتالية، وانسحاب قوات الأمم المتحدة، وانفجار الخلافات الداخلية، غرقت البلاد في فوضى شاملة يقودها رجل واحد: العقيد عاصمي غويتا، الذي جاء باسم “السيادة” ليقود وطنه إلى عزلة دولية وانهيار داخلي غير مسبوق.
وفي وقت تتساقط فيه المدن تباعًا في قبضة الجماعات المتشددة، وتتحول مناطق الشمال إلى ساحات حرب قبلية وإثنية، تلوح في الأفق قوة إقليمية واحدة تحاول أن تجمع ما تفرّق من أشلاء الدولة المالية: الجزائر، التي رعت اتفاق السلام عام 2015، وتعود اليوم إلى الواجهة كمفتاح وحيد لباب الحل.
المحور الأول: فشل الحكم العسكري… حين قاد الجهل دولة كاملة إلى الخراب
منذ انقلاب أغسطس 2020 الذي أطاح بالرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا، بدت مالي كأنها تخرج من التاريخ لتعود إلى زمن الفوضى. وعد غويتا الماليين بحكم “وطني وسيادي”، لكن النتيجة كانت عسكرة الدولة وتكميم الأفواه وتفكيك المؤسسات.
في أقل من ثلاث سنوات، أُجهز على الحياة السياسية بالكامل:
- تم حل أكثر من 70 حزبًا سياسيًا بمراسيم عسكرية.
- أُغلقت وسائل إعلام مستقلة واتُهم صحفيون بالتخابر.
- واعتُقل عشرات النشطاء في حملات وُصفت بأنها “أسوأ من زمن كيتا نفسه”.
يصف دبلوماسي إفريقي الوضع قائلاً:
“غويتا حوّل الحكم من أزمة سياسية إلى أزمة هوية وطنية. مالي اليوم بلا مشروع، بلا مؤسسات، وبلا أفق”.
حتى الاقتصاد، الذي كان يعاني أصلًا، انهار مع العقوبات الإقليمية التي فرضتها “الإيكواس”، وتراجع الناتج المحلي بنسبة 8% خلال عام واحد، في حين تجاوزت نسبة البطالة الرسمية 32%.
المحور الثاني: الأمن المفقود والإنسان المنسي
حين طرد غويتا بعثة الأمم المتحدة (مينوسما) عام 2023، برّر الخطوة بأنها “استعادة للسيادة”، لكن ما تلاها كان انفجارًا أمنيًا شاملاً.
- فقدت الحكومة السيطرة على أكثر من 60% من مساحة البلاد.
- تضاعف عدد الهجمات الإرهابية بنسبة 130% في عامين فقط، وفق تقرير مجلس الأمن.
- وتجاوز عدد النازحين داخليًا 600 ألف شخص، فيما يعيش أكثر من 7 ملايين مالي في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية.
في الشمال، تصاعدت المواجهات بين الجيش وحركات أزوادية أعادت حمل السلاح بعد انهيار اتفاق الجزائر. وفي الوسط، تمددت جماعات مثل “نصرة الإسلام والمسلمين” و“بوكو حرام”، وسط عجز تام للجيش المالي المنهك.
أما الجنوب، الذي كان يوصف بـ”الآمن”، فقد بات يعيش على وقع التفجيرات والاغتيالات، لتتحول مالي كلها إلى “خريطة خوف”، حيث لا صوت يعلو على صوت البندقية.
المحور الثالث: العزلة الدولية… وسقوط الأقنعة
في خضم ذلك، وجد النظام العسكري نفسه محاصرًا من كل الجهات.
بعد قطيعته مع فرنسا، وتوتره مع دول الجوار، اتجه غويتا إلى موسكو، جالبًا معه عناصر فاغنر الروسية، الذين تمركزوا في وسط البلاد وارتكبوا، بحسب منظمات دولية، “انتهاكات مروعة” ضد المدنيين.
الولايات المتحدة فرضت قيودًا دبلوماسية، والاتحاد الأوروبي جمّد مساعداته، فيما انسحب المستثمرون، ليتحول شعار “السيادة” إلى عزلة سياسية واقتصادية خانقة.
ومع سقوط وعود “التحرر من الوصاية”، غرقت مالي أكثر في التبعية الجديدة، وأصبحت دولة تدور في فلك المرتزقة. أما شعبها، فدفع الثمن مضاعفًا: فقر، نزوح، ومجاعة صامتة.
المحور الرابع: الجزائر… آخر مفاتيح السلام
وسط هذا الانهيار، تعود الجزائر إلى الواجهة كقوة إقليمية عاقلة في بحر من الجنون. فهي الدولة الوحيدة التي لم تلوّثها أطماع النفط ولا أجندات التدخل العسكري. منذ توقيع اتفاق الجزائر للسلام عام 2015، حافظت على موقف ثابت: لا حلّ في مالي إلا بالحوار والمصالحة الوطنية.
واليوم، تضع الجزائر ثقلها السياسي خلف شخصية دينية جامعة هي الشيخ محمود ديكو، الذي يوصف في مالي بـ“صانع الملوك”، ويحظى باحترام واسع لدى مختلف القبائل والتيارات. استضافته الجزائر ليست صدفة، بل خطوة ضمن رؤية شاملة لإحياء الاتفاق وإعادة بناء الجسور بين باماكو والأزواد.
الاتصالات الأخيرة بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أكدت هذا التوجه، إذ شدد الطرفان على “ضرورة العودة إلى مسار الجزائر”، باعتباره الإطار الوحيد الذي يضمن وحدة مالي واستقرارها.
الخاتمة: ساعة الحقيقة تقترب
بعد ثلاث سنوات من حكم العسكر، تقف مالي اليوم على حافة الانهيار الكامل.
الدولة التي كانت قادرة على قيادة الساحل أصبحت عبئًا على محيطها، وشعبها يعيش بين ركام الحروب والانقسامات.
لقد أثبتت التجربة أن الجاهل حين يحكم، يزرع الخراب ويقطف الفوضى.
لم تعد المسألة ما إذا كانت مالي ستنهار، بل متى.
والسؤال الحقيقي الآن:
هل تتحرك الجزائر في الوقت المناسب لتدق ساعة الإنقاذ قبل أن تدق ساعة النهاية؟







