الإرث الإنساني… جراح مفتوحة على ذاكرة الوطن
محمدعبد الرحمن ولد عبد الله
كاتب صحفي ، انواكشوط
لا تزال جراح “الإرث الإنساني” تنزف في صمتٍ موجعٍ، وكأنّها لا تريد أن تندمل، أو كأنّ الزمن نفسه تآمر على الذاكرة كي يخفف من وقعها دون أن يعالجها.
أُزهقت أرواح عشرات الجنود الموريتانيين دون محاكمة، وهُجّر الآلاف من المواطنين قسراً إلى السنغال ومالي، لا لذنبٍ اقترفوه سوى انتمائهم إلى إثنيةٍ بعينها. لقد كانت تلك السنوات صفحة سوداء في سجل الدولة، لحظة انكسار للضمير الوطني، حين تحوّل الانتماء إلى الوطن من مصدر كرامة إلى تهمةٍ تُفضي إلى الإذلال أو الموت.
اليوم، وبعد مرور عقودٍ على تلك الأحداث، لا تزال الحقيقة حبيسة الأدراج، ولا يزال أهالي الضحايا في انتظار العدالة التي طال غيابها. ينتظرون أن تعترف الدولة بما جرى، أن تسمي الأشياء بأسمائها، وأن تنظر في أعين الأمهات اللواتي لم يجف دمعهن، والأبناء الذين كبروا على سؤالٍ لم يجدوا له جوابًا: “لماذا قُتل أبي؟”.
المرواغة عن العدالة في مثل هذه القضايا ليست شجاعةً سياسية، بل هي استمرارٌ للجريمة بصمتٍ رسميٍّ مؤلم. فغياب المحاسبة لا يعني النسيان، بل يعني التواطؤ. ومن يهرب من مواجهة الماضي، إنما يزرع بذور انقسامٍ جديد في المستقبل.
الملف لا يُغلق بالخطابات ولا بتوزيع التعويضات المالية، بل بالاعتراف، ثم المحاسبة، ثم المصالحة الصادقة. على رئيس الجمهورية أن يتحلّى بالشجاعة التاريخية، ويفتح حواراً وطنياً شاملاً يُفضي إلى كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات، ومطالبة من تورطوا بتقديم تفسيراتهم أمام الشعب، لا بدافع الانتقام، بل من أجل ترميم ذاكرة الوطن الممزقة، وتكريم ذكرى الذين راحوا وهم يخدمون تحت رايةٍ ظنوها راية العدالة والمساواة.
الإرث الإنساني ليس ملفاً سياسياً يُغلق بتوقيع، بل هو امتحانٌ أخلاقي لضمير أمةٍ بأكملها. ما لم نواجه هذا الماضي بشجاعة، سنبقى نحمل على أكتافنا عبء الخوف من الحقيقة، وسنظل نعيش في وطنٍ يجمّل جراحه ولا يداويها.
في النهاية، لا يمكن للوطن أن ينهض وجزء من أبنائه يشعر أن العدالة لم تنصفه، وأن الدولة التي يفترض أن تحميه كانت هي الجلاد.
العدالة وحدها قادرة على إعادة الثقة، والمصالحة الحقيقية تبدأ من الاعتراف، لا من النسيان.
ولعلّ أكثر ما يخيف في هذا الملف، ليس ما جرى… بل ما لم يُقال بعد.
الرحمة لكل ضحايا الوطن ،واللعنة لكل الظالمين.