مقابلات وتحقيقات

الثروة تُنهب… والوطن يُستنزَف: بين سوء التسيير وإفلاس السياسة

محمدعبد الرحمن ول عبدالله
مدير موقع الإتحاد

□ في موريتانيا، يكاد المواطن العادي يلمس يوميًا أن ثروات بلاده لا تنعكس على حياته، ولا على واقعه الاجتماعي، ولا على مستقبل أبنائه. فبلدٌ يُوصف بأنه “أرض الذهب والحديد والسمك والغاز”، يعيش أغلب سكانه تحت خط الفقر، في مفارقة صادمة لا تفسرها سوى كلمة واحدة: الفساد.

● شركات أجنبية… ودولة غائبة

من البحر إلى باطن الأرض، يتكرر المشهد ذاته: عقود غامضة، شركات أجنبية تستحوذ على النصيب الأكبر، وخزينة عامة لا يصلها إلا الفتات. ففي قطاع الصيد – الذي يُعتبر عصب الاقتصاد البحري – تشير تقارير رسمية سابقة إلى أن الأسطول الأوروبي والصيني يحصد ملايين الأطنان من الأسماك سنويًا، بينما يظل الصياد المحلي عاجزًا عن توفير قوت يومه.
وفي الشمال، حيث مناجم الحديد والذهب، يتكرر السيناريو نفسه: شركات عالمية تجني مليارات الدولارات، بينما سكان المناطق المنجمية يئنون من العطش والبطالة والتلوث.

● سوء التسيير: العصب الخفي للانهيار

المشكلة لا تتوقف عند حدود النهب الخارجي، بل تتضاعف بفعل سوء التسيير الداخلي. الأموال العامة تُهدر في مشاريع وهمية أو متعثرة، وصفقات عمومية تُمنح بالمحاباة لا بالكفاءة. مثال ذلك ما كشفته تقارير محكمة الحسابات عن تجاوزات في قطاعات البنى التحتية والتعليم، حيث تُصرف مليارات على مشاريع لا ترى النور أو تنهار بعد أشهر من إنشائها.

● طبقة سياسية مفلسة من القيم

الطبقة السياسية – سلطة ومعارضة – تشترك في إفلاس أخلاقي واضح. فالمواقع تُوزع وفق الولاءات القبلية والجهوية، لا على أساس الكفاءة. وموسم الانتخابات لا يزيد الطين إلا بلة: وعود فضفاضة، تعبئة قبلية، وصناديق اقتراع تُدار بعقلية الغنيمة. وهكذا، تترسخ قناعة عند المواطن بأن السياسة في هذا البلد ليست خدمة عامة، بل صفقة خاصة.

● مواطن بلا أفق

الشباب، الذي يُفترض أن يكون طاقة بناء، صار ضحية انسداد الأفق. آلاف منهم يغامرون بالهجرة السرية نحو المجهول، بحثًا عن أمل مفقود في وطنهم. ومن بقي، يعيش بين مطرقة البطالة وسندان الإحباط، بعدما فقد الثقة في أن الأنظمة المتعاقبة يمكن أن تُصلح ما أفسدته عقود من الفساد والتسيب.

● مهازل انتخابية… لإعادة إنتاج الفشل

الانتخابات، التي يُفترض أن تكون أداة للتغيير، تحولت إلى مجرد طقوس دورية لإعادة إنتاج نفس الوجوه ونفس السياسات. المال السياسي يُوزع بسخاء، والنتائج تُعرف مسبقًا، أما المواطن، فصار مجرد شاهد على “مسرحية” لا تغير من واقعه شيئًا.

● المسؤولية التاريخية

لا يمكن القفز على الحقيقة: الأنظمة المتعاقبة هي المسؤولة الأولى عن الانهيار الذي يعيشه البلد. سياسات مرتجلة، غياب للمحاسبة، وتواطؤ مع الشركات الأجنبية… كلها عوامل جعلت دولةً غنية بالموارد فقيرة في التنمية، مشلولة في الإدارة، وممزقة اجتماعيًا.

● إلى أين؟

يبقى السؤال الحاسم: إلى متى يستمر هذا النزيف؟
الإجابة لن تأتي من الخارج، بل من الداخل: من وعي مدني جديد، ومن جيل يرفض التلاعب بمستقبله، ويكسر دائرة الفساد، ويستعيد للوطن مكانته. فالثروة إذا لم تكن في خدمة المواطن، فهي لعنة. والسياسة إذا لم تكن أخلاقًا ومسؤولية، فهي خيانة.

زر الذهاب إلى الأعلى