تصاعد الإسلام السياسي في منطقة الساحل: سياقات هشّة وصراعات مفتوحة

مقال تحليلي موسع
محمدعبدالرحمن ول عبدالله
صحفي متابع لشؤون منطقة الساحل
تشهد منطقة الساحل خلال العقد الأخير صعودًا لافتًا للإسلام السياسي، ليس كتعبير ديني فحسب، بل كأداة سياسية وأمنية واجتماعية تتغذّى على الفراغات الهائلة التي خلّفتها الدولة الضعيفة، وانهيار الخدمات، وتفشي الفساد، وتأزم الأوضاع الاقتصادية. هذا الصعود لا ينفصل عن ديناميات أعمق تعيد تشكيل المنطقة، من الانقلابات العسكرية المتتالية إلى توتر العلاقات مع القوى الدولية، وتراجع نماذج الحكم التقليدية.
● أولًا: جذور الظاهرة… حين تنسحب الدولة ويتقدم الفراغ
لا يوجد فراغ في السياسة، ومنطقة الساحل مثال واضح. كلما تراجعت الدولة عن أداء وظائفها الأساسية—التعليم، الأمن، الصحة، العدالة—اندفعت تنظيمات الإسلام السياسي والجماعات الجهادية والطرق الدعوية لملء الحيز الشاغر.
في القرى المنسية، يقدّم هؤلاء خدمات أولية:
- تعليمًا بديلًا للمنظومات الرسمية المهترئة،
- قضاءً عرفيًا يفضّ النزاعات بسرعة،
- مساعدات غذائية وطبية،
- شبكات حماية وانتماء.
هكذا تحوّل الدين إلى منصة تعبئة اجتماعية قبل أن يكون مشروعًا سياسيًا.
● ثانيًا: الانهيار الأمني… القاعدة وداعش وقبائل تبحث عن سند
أدى الانكشاف الأمني إلى بروز جماعات أكثر تشددًا، تتغذى على ضعف الحكومات وعلى اعتمادها المفرط على الجيوش والانقلابات.
فشل الحرب على الإرهاب بنسختها الدولية والمحلية سمح بتضخم نفوذ التنظيمات المسلحة، إذ باتت مناطق واسعة من مالي وبوركينا فاسو والنيجر خارج سيطرة المركز.
في هذه المناطق أصبحت الجماعات الجهادية:
- وسيطًا سياسيًا،
- حكمًا عرفيًا،
- مزودًا للخدمات،
- وأحيانًا الضامن الوحيد للأمن.
هذا الواقع منح الإسلام السياسي المسلح شرعية أمر واقع، وجعل أي تسوية سياسية مستقبلية مضطرة للتعامل معه.
● ثالثًا: صعود الإسلام السياسي “الناعم”… منابر وجمعيات ومشاريع نفوذ
إلى جانب التنظيمات المسلحة، شهدت المنطقة بروز جماعات إسلامية ذات خطاب اجتماعي وسياسي أكثر نعومة، مستفيدة من:
- تآكل الأحزاب التقليدية،
- ضعف الدولة المدنية،
- انتشار الفقر والبطالة،
- وانهيار الثقة بالمؤسسات.
هذه الجماعات—المنظمات الدعوية، الجمعيات الخيرية، التيارات السلفية والحركية—تطرح نفسها كبديل أخلاقي في بيئة منهكة.
وتستثمر أكثر في الإعلام والتعليم ووسائل التواصل لصناعة حضور مستمر، وتحويل الدين إلى خطاب احتجاجي وسياسي معًا.
● رابعًا: الانقلابات العسكرية… دَفْع جديد للإسلام السياسي
أدت الانقلابات المتتالية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى إعادة تشكيل التحالفات الداخلية.
الجيوش الحاكمة تلعب على حبال متعددة:
- تقترب من الخطاب الإسلامي لشرعنة حكمها،
- وتغازل الطرق الصوفية،
- وتستثمر في الرموز الدينية لاحتواء الشارع.
هذا لا يعني تحالفًا مباشرًا مع الإسلام السياسي، لكنه يعني انفتاح المجال العام مجددًا للخطاب الديني السياسي، بعد سنوات من محاولات تقليصه.
● خامسًا: الدور الخارجي… الخليج وتركيا وإيران في الملعب
تلعب القوى الإقليمية دورًا واضحًا في تشكيل الإسلام السياسي في الساحل.
فالدعم الخليجي للمشاريع الدعوية، والدور التركي المتنامي في التعليم والبنى الاجتماعية، ومحاولات إيران الحذرة، كلها عناصر تخلق جيو-إسلاميات متعددة تتسابق على النفوذ.
بهذا يتحول الإسلام السياسي إلى ساحة تنافس دولي، لا مجرد ظاهرة محلية.
● سادسًا: موريتانيا… الاستثناء الحذر
رغم أن موريتانيا تجلس على الحافة نفسها، فإنها تبدو أقل هشاشة من جيرانها، لأسباب تتعلق بـ:
- حضور الدولة في المدن الكبرى،
- قوة الطرق الصوفية التقليدية،
- تجارب سابقة مع التشدد،
- وتفاهمات غير معلنة بين السلطة وبعض التيارات الإسلامية.
لكن هذا الاستقرار ليس مضمونًا، خاصة مع تنامي البطالة، وغياب العدالة الاجتماعية، واتساع الفجوات الطبقية.
● سابعًا: النتائج… إسلام سياسي يُعاد تشكيله
ما يظهر الآن هو إعادة تشكيل كاملة للإسلام السياسي في الساحل، وفق ثلاثة خطوط متوازية:
- الإسلام السياسي المسلح الذي يسيطر بالقوة على مناطق مترامية.
- الإسلام السياسي المدني/الدعوي الذي يعيد بناء شرعيته على خطاب أخلاقي وخدمات اجتماعية.
- الإسلام السياسي المندمج في السلطة عبر الانقلابات والحكومات الهشة.
● خاتمة: نحو مستقبل مضطرب
تصاعد الإسلام السياسي في الساحل ليس صعودًا دينيًا، بل صعودًا للدين كبديل للدولة.
ما دام الفساد مستشريًا، والتنمية غائبة، والعدالة مختلة، ستظل الجماعات الدينية—المسلحة وغير المسلحة—تمتلك القدرة على ملء الفراغ.
المعادلة الحقيقية ليست في محاربة الإسلام السياسي، بل في بناء الدولة:
دولة توفر الأمن، والخبز، والعدالة، والتعليم.
فحين توجد الدولة القوية… تتراجع البدائل جميعها.







