بعض الوزراء يبرمون ، الصفقات مع شركاتهم.!
ما عاد تعارض المصالح في موريتانيا مجرد خلل عرضي في التعيينات، بل أصبح بنية قائمة بذاتها، وآلية من آليات إعادة إنتاج النخبة المتحكمة في مفاصل الدولة. والحكومة الحالية، التي لطالما رفعت شعارات الشفافية ومحاربة الفساد، تكشف لنا كل يوم أن الفساد لم يعد يُدار من الظل، بل من داخل المكاتب الوزارية ذاتها، بصيغة قرارات رسمية مختومة.
الفضيحة الأحدث: وزارة الرقمنة تبرم صفقاتها مع شركة الوزير!
في تطور خطير، تتسرب إلى العلن معلومات موثوقة تفيد بأن شركة “ابتكار”، وهي شركة متخصصة في الحلول المعلوماتية، قد حصلت على عقود حكومية بمليارات الأوقية من وزارة الرقمنة، التي يقودها حاليًا الوزير أحمد سالم ولد أبد، أحد مؤسسي الشركة ومساهميها الأساسيين!
ولم تتوقف دائرة المصالح عند هذا الحد، إذ تشير المصادر إلى أن الوزير السابق للرقمنة، محمد عبد الله ولد لولي، شريك في ذات الشركة، ما يجعل الوزارة في حالة تعاقد دائم مع ملاكها السابقين والحاليين. هل بقيت أي حاجة لمفهوم “الطرف الثالث”؟
■ حكومة المصالح المشتركة: من الرقمنة إلى “التمكين الذاتي”
تُظهر هذه الواقعة أن المعايير التي يتم بها اختيار الوزراء لا تستند إلى الكفاءة ولا إلى الحياد، وإنما إلى قربهم من مراكز النفوذ الاقتصادي والسياسي، أو إلى قدرتهم على ضمان تمرير الصفقات داخل الوزارة لصالح شركاتهم أو عائلاتهم أو دوائرهم القبلية.
وهذا لا يقتصر على وزارة الرقمنة. فقد رأينا من قبل:
مقاولين يتحولون إلى وزراء إسكان، ليمنحوا صفقاتهم السابقة (أو اللاحقة) لشركات محسوبة عليهم.
رجال أعمال يُعينون في الوزارات الاقتصادية، ثم تُدار المناقصات تحت سمعهم وبصرهم وكأنها “غنائم انتصار سياسي”.
مسؤولين يُكلّفون بالإشراف على مشاريع دولية تموّلها هيئات مثل البنك الدولي، ثم يُعيّنون أقاربهم وشركاءهم بوثائق مزوّرة أو بملفات مفصلة على مقاس المحسوبية.
■ غياب الدولة.. ،،وحضور الجماعة.!
ما تكشفه فضيحة “ابتكار” هو أن الدولة، بصفتها مؤسسة حيادية تعمل وفق القانون، غائبة فعليًا. في المقابل، الحاضر هو منطق “الجماعة” و”الشبكة” و”القرابة”. فالوزير لا يخضع لمساءلة، بل يجد في منصبه فرصة لتسديد فواتير الشراكة القديمة، أو استثمار نفوذه في المستقبل السياسي والمالي.
■ ماذا تبقى من مصداقية الحكومة.؟!
في مثل هذا الواقع، لا معنى للجنة الشفافية في الحياة العامة، ولا لمحكمة الحسابات، ولا لأي شعارات انتخابية تحدثت عن فصل الثروة عن السلطة، أو ربط المسؤولية بالمحاسبة.
أسوأ من الفساد المالي، هو الفساد السياسي الممنهج الذي يُحوّل المؤسسات إلى أدوات استثمار شخصي، ويقضي على الأمل في التغيير الجاد.
■ خاتمة:
من يراقب الأداء الحكومي اليوم، يدرك أن المعركة الحقيقية في موريتانيا ليست بين “الموالاة والمعارضة”، بل بين من يريد دولة وطنية حديثة تُدار بالقانون، ومن يريد دولة جشعة تُدار بالشراكة بين القبيلة والصفقات.
فضيحة “ابتكار” ليست حالة شاذة، بل مرآة لحكومة اختارت أن تحكم بآلية الإعفاء الذاتي من المحاسبة.
وإن لم يكن هذا سببًا كافيًا للتجريد والمساءلة، فليكن على الأقل ناقوس خطر سياسي لمن لا يزال يؤمن بأن لهذه البلاد مستقبلًا خارج هذه الحلقة الجهنمية.