مقابلات وتحقيقات

قصص من ذاكرة مدينة الشيخ إبراهيم انياس، في كولخ

■ (حين تلاقت القصيدة بالصلاة، وامتزج الرمل بالذكر)

في قلب السنغال، حيث السافانا تنام على وسادة المطر، وتغفو النخيل على ضوء القمر، تمتدّ كولخ مثل قصيدةٍ لم تكتمل، تكتبها السماء بحبرٍ من الطهر والندى.
هناك، تسكن ذاكرة الشيخ إبراهيم انياس، كأنها نهرٌ من نورٍ لا ينضب، يجري في عروق الأرض، ويغسل وجوه الزائرين بماء الرضا.

كانت كولخ – في خمسينيات وستينيات القرن الماضي – أشبهَ بسماءٍ تمطر على القلوب.
تغدو الزاوية فيها بيتًا للعاشقين، ومأمنًا للضالين في صحراء الحياة.
ومن بين أولئك الذين كانت أرواحهم تميل نحوها، جاء الموريتانيون، رِحالًا من الرمل إلى المطر، يحملون في صدورهم لهيب الصحراء، وفي أيديهم دفاتر القصيد.

■ الطريق إلى كولخ

كانوا يقولون: “من أراد لقاء الشيخ، فليطهّر قلبه قبل قدميه.”

ولهذا، حين يعبر الشعراء الموريتانيون الحدود نحو كولخ، كانوا يخلعون عنهم عادات الكلام، ويتطهّرون من الغرور كما يتطهّر المصلّي من الغبار.
كانت الرحلة إليهم عبورًا من الذات إلى الفناء، من القصيدة إلى الذكر، ومن الحرف إلى الحقيقة.

وفي المساء، حين يهبّ نسيم نهر السنغال، كان الشيخ يجلس في ساحة الزاوية، بين حلقات المريدين، صوته هادئ كآيةٍ تُتلى برفق.
وكان الشعراء، أولئك القادمون من بلاد شنقيط، يحيطون به بخشوعٍ يشبه الوقوف على أطلال الحلم.

■ القصيدة التي اغتسلت في الذكر

يُروى أن أحد الشعراء – وكان من أهل البادية – دخل على الشيخ بعد أن أمضى الليل كلّه يردد أبياتًا من المدح.
فلما وقف بين يديه، لم ينشد بيتًا واحدًا.
سأله الشيخ: «أما كنت شاعرًا؟»
فقال: «كنت، يا سيدي، حتى رأيتك، فانحلّ الوزن وسكت القلم.»
ابتسم الشيخ وقال:

> «الكلمة التي لاتذكر بالله هباء.
فاجعل شعرك وضوءا لا زينة.»

من يومها تغيّر ذالك الشاعر،
وصار شعره دعاءً يُقال في الطرقات،
وصار المديح عنده بابًا إلى الفهم لا بابًا إلى الشهرة.

■ ما بين الرمل والمطر

كان الشعراء الموريتانيون يجدون في كولخ ما لم يجدوه في قصور نواكشوط ولا في خيام القبائل: روحًا تسمع قبل أن تتكلم.
في حضرة الشيخ، لم يكن أحد يُسأل عن نسبه ولا قبيلته، بل عن نيّته.
فمن جاء بحبٍّ صادق، وجد الطريق مفتوحًا.
ومن جاء يسأل عن الله، وجد الله في الوجوه، وفي الأذكار، وفي ابتسامة الشيخ التي كانت تُذيب المسافة بين الإنسان وربّه.

وكانت ليالي كولخ تعزف لحنًا لا يشبه سواها:
مريدون يتهامسون بالولوفية، وآخرون بالعربية، لكنّ الذكر واحد.
وحين تندمج الأصوات في “الله، الله”،
كانت القصيدة تسجد في قلب الشاعر، كأنها وصلت أخيرًا إلى معناها الأول.

■ رسائل على هواء كولخ

ترك الشعراء الموريتانيون في المدينة رسائل كثيرة، بعضها مكتوب بالحبر، وبعضها بالعَبرات.
رسائل تفيض شكرًا ودهشة:

> “يا كولخ يا مدينة الشيخ، يا رحم الروح… جئنا نطلب بركة، فعدنا نحمل يقينًا.”

بعضهم عاد إلى بلاده فغيّر شعره،
صار يكتب عن الله لا عن العيون، وعن الفقر بمعناه الصوفي لا الاجتماعي.
وبعضهم لم يعد أبدًا، اختار أن يدفن قلبه هناك، حيث المطر لا ينقطع، وحيث الذكر يغسل حتى صمت التراب.

■ الشيخ والشعراء

كان الشيخ إبراهيم انياس يرى في الشعراء مرآةً لروح الأمة.
يقول لهم:

> “أنتم حرّاس الجمال، والجمال طريقٌ إلى الله إن صلح القصد.”
وكان يُحبّ أن يسمع المدائح الموريتانية القديمة، تلك التي تتغنّى بالرسول وبالأولياء، بلحن الصحراء الجافّ الذي يذوب في لحن كولخ النديّ.
فكان الجمع بين المدرستين كجمع الماء بالنار، لا يُطفئ أحدهما الآخر، بل يُنضج منهما النور.

■ حين عادوا إلى الرمل

وعندما يعود الشعراء إلى موريتانيا، كانوا يعودون بوجوهٍ جديدةٍ لا يعرفها الناس.
في عيونهم ظلّ من ضوء كولخ، وفي أصواتهم شيء من نغمة الذكر.
كانوا يقولون في المجالس:

“من لم يزر كولخ، لا يعرف معنى الكلمة حين تصبح عبادة.”

وبينما كان الناس يتساءلون:
“أين ذهبت بلاغة الشاعر؟”

كان هو يبتسم بصمتٍ، لأن البلاغة عنده لم تعد في البيان، بل في البصيرة.

■ ختام الذاكرة

اليوم، بعد رحيل الشيخ بعقودٍ، ما زالت كولخ تتنفّس من ذاكرته.
وما زالت قصص الموريتانيين تُروى على ألسنة الشيوخ هناك، كأنها صلاةٌ طويلة لم تُختتم بعد.
مدينةٌ صغيرة، لكنها تُضيء إفريقيا بأسرها،
لأنها احتضنت رجلًا علّم الناس أن الدين ليس في القول، وجده بل في النية الصادقة والعمل الخالص، و في السلوك، السليم
وأن الشعر إذا لم يكن حبًّا، فهو لغو.

> هكذا تبقى كولخ، في ذاكرة الشعراء الموريتانيين،
أرضًا يتقاطع فيها الحرف مع الذكر، والرمل مع المطر، والقصيدة مع الولاية
.

تقرير :
محمدعبدالرحمن ول عبدالله
كاتب ، صحفي ، أنواكشوط

زر الذهاب إلى الأعلى