ثقافة

لصوص الجاهلية أفضل من لصوصنا

في زمنٍ بعيد، كان اللص إذا تسلل إلى بيتك، خرج منه تاركًا نصفه لك… لا لأنه عاجز عن سرقة البقية، بل لأن “وصية الشرف المهني” تحرّم عليه أن يتركك في العراء.
كانوا لصوصًا نعم، لكنهم رجالٌ بقَسَمٍ وضمير.
‏قال أدهم بن عسقلة، كبير اللصوص في العصر العباسي، وهو يُسلم روحه ويوصي أتباعه:
“لا تسرقوا امرأة، ولا جارًا، ولا فقيرًا، وإذا سرقتم بيتًا فاسرقوا نصفه، واتركوا النصف الآخر ليعتاش عليه أهله… ولا تكونوا مع الأنذال.”

قارن هذا بكبار لصوص نواكشوط اليوم — أولئك الذين لا يسرقون نصف البيت، بل يبيعونه لك وهمًا أولًا، ثم ينهبونه في وضح النهار بثوب “صفقة عمومية”، ويتركون لك الفتات مذبوحًا على ورقة رسمية مختومة بخاتم الدولة.

لصوص الأمس كانت لهم قواعد، عهود ضمنية، أخلاق عجيبة في قلب الفوضى.
أما لصوص اليوم، فتمردوا حتى على فكرة “السرقة”…
إنهم لا يسرقون سهوًا أو تحت جنح الظلام، بل ينهبون باسم التنمية، والتمكين، والتقويم الاقتصادي، وخطة إصلاح القطاع.

‏ابن حمدي العيار، أحد لصوص بغداد، كان لا يسرق من تقل بضاعته عن ألف درهم. أما لصوصنا اليوم فلا يعرفون حدودًا؛ لا يميزون بين صندوق إعانة للفقراء، أو تجهيزات مستشفى، أو شحنة أدوية مخصصة للمنكوبين — كل شيء عندهم قابل للنهب، حتى الخيمة التي يُدفن فيها الضمير.

لصوص بغداد إذا شربوا ماء بيتك، أو ألقيت عليهم السلام فردوه، امتنعوا عن إيذائك.
أما لصوص نواكشوط، فلو سقيتهم دمك، وقلت لهم “السلام عليكم ورحمة الله”، ردوا عليك بـ”عليكم القرض، والنهب، والصفقة المشبوهة”…
ثم سرقوا أرضك، وباعوا ماءك، واحتكروا كهرباءك، وأصدروا بيانًا صحفيًا يقول: “في إطار تحسين الخدمات.”

لصوص الأمس كانوا يعترفون بأنهم لصوص، ويختفون بعد فعلتهم.
أما لصوص اليوم، فإنهم يقيمون مؤتمرات صحفية، ويتلون أرقامًا منفوخة، ويُقنّنون نهبهم تحت مسمياتٍ براقة، فيُسمى الفساد “تشجيعًا للاستثمار”، وتُسمى الرشوة “تحفيزًا للموردين”، ويُسمى اختلاس المال العام “تحويلًا داخليًا في إطار المرونة المالية.”

نعم، لصوص نواكشوط جاؤوا في زمن لا يحتاج إلى أقنعة. لأن السارق صار وزيرًا، والمرتشِي رجل أعمال، والنزيه قابع في زنزانة بتهمة “زعزعة الاستقرار”.

فيا أدهم بن عسقلة، لو قُدّر لك أن تُبعث من قبرك، لما عرفت هذا الجيل من اللصوص…
لصوص بلا شرف، بلا حدود، بلا استحياء.

زر الذهاب إلى الأعلى