مؤتمر ألاك 1958 ميلاد دولة التبعية
محمدعبدالرحمن ول عبدالله
كاتب صحفي ،أنواكشوط
لم يكن مؤتمر ألاك سنة 1958 محطة تأسيس للدولة الوطنية الموريتانية كما يُروّج في الكتب الرسمية والخطاب السياسي، بل كان لحظة مفصلية في مسار إعادة إنتاج النفوذ الاستعماري بوسائل جديدة. فقد أدركت فرنسا، وهي تتهيأ للرحيل عن مستعمراتها الإفريقية، أن البقاء في موريتانيا لا يمر عبر الاحتلال العسكري، بل عبر “احتلال النخبة” وصناعة طبقة سياسية موالية تحكم باسم الاستقلال، وتضمن استمرار المصالح الفرنسية في الأرض والبحر والإدارة.
بهذا المنطق الاستعماري الماكر، جاء مؤتمر ألاك كحلقة في مشروع فرنسي لإجهاض أي إمكانية لتحرر وطني حقيقي. فبينما كانت حركات المقاومة في موريتانيا – من الشرق إلى الشمال ومن الجنوب إلى الساحل – قد زرعت بذور الوعي الوطني على قاعدة الكرامة والحرية، كانت الإدارة الفرنسية تعمل على نقيض ذلك: تفكيك النسيج الاجتماعي وإعادة هندسة الولاءات على أسس قبلية وجهوية. لقد أرادت فرنسا أن تُنتج “وطناً بلا وعي”، و”استقلالاً بلا سيادة”، و”دولةً بلا مشروع وطني”.
من هنا يمكن القول إن الانحراف عن مسار الدولة الوطنية لم يبدأ بانقلاب العسكر سنة 1978 كما يعتقد كثيرون، بل قبل ذلك بعقدين، في قاعة مؤتمر ألاك تحديداً، حيث تم وضع أسس دولة الزبونية والولاءات الضيقة، لا دولة المواطنة والمساواة. لقد تأسس النظام السياسي الموريتاني على قاعدة من التوازنات القبلية والمناورات الجهوية التي ما تزال تعيق قيام دولة المؤسسات حتى اليوم.
ومع مرور الزمن، أثمرت تلك النشأة المشوهة نخبة سياسية واقتصادية ورثت روح التبعية بدل روح التضحية. فبدلاً من أن تُبنى موريتانيا على قيم التحرر التي جسدها قادة المقاومة الأوائل، أُقيمت على مصالح فئوية ضيقة. والنتيجة أن الاستقلال ظل في كثير من جوانبه شكلياً، بينما ظل القرار السياسي والاقتصادي مرتهناً للخارج، والوعي الوطني رهينة لتلك البنية التقليدية التي فُرضت يوم ألاك.
اليوم، وبعد أكثر من ستة عقود، تبدو الحاجة ماسة إلى مراجعة نقدية جذرية لتلك اللحظة التأسيسية. فنهضة موريتانيا الحقيقية لن تتحقق إلا إذا استعادت روح المقاومة، واستلهمت قيمها في الحرية والإخلاص للوطن، لا عبر تمجيد مؤتمر كان في جوهره إعادة إنتاج للاستعمار في ثوب وطني.
إن معركة الاستقلال لم تنتهِ في 1960، بل ما تزال مستمرة ضد التبعية بكل أشكالها. والرهان الأكبر هو أن تستعيد موريتانيا مشروعها الوطني الذي وُئد في ألاك قبل أن يُولد.