مذكرات أبو حفص الموريتاني بين التوبة والتطبيع مع العنف
محمد عبد الرحمن ولد عبد الله
كاتب صحفي ، أنواكشوط
حين تطالع عنوان مذكرات القيادي السابق في تنظيم القاعدة أبو حفص الموريتاني، “من الإرهاب إلى المعرض الدولي للكتاب”، تشعر منذ الوهلة الأولى أنك أمام رحلة متناقضة بين كهوف العنف ومنصّات الفكر، بين لغة الرصاص ولغة الكلمة. لكن ما إن تتوغل في فصول الكتاب حتى تدرك أنك أمام نصٍّ إشكاليٍّ، يثير من الأسئلة أكثر مما يقدّم من الإجابات.
من هو أبو حفص الموريتاني؟
اسمه الحقيقي محفوظ ولد الوالد، أحد أبرز المنظّرين الشرعيين في تنظيم القاعدة خلال تسعينات القرن الماضي، وعضو مجلسها الشرعي المقرب من أسامة بن لادن. مثّل لفترة طويلة العقل الفقهي الذي يبرّر العمليات الجهادية ضد الأنظمة العربية والغربية، قبل أن يغادر أفغانستان عقب أحداث 11 سبتمبر ويبدأ مسارًا من المراجعات الفكرية والسياسية انتهى إلى الانفصال عن التنظيم في ظروف ما تزال غامضة حتى اليوم.
المذكرات: بين التبرير والتبرّؤ
يحاول أبو حفص في مذكراته أن يرسم صورة جديدة لنفسه: صورة المفكر المتأمل الذي تجاوز الماضي العنيف، ويدعو إلى الاعتدال ونبذ التطرف. غير أن القارئ الحصيف يلمس في ثنايا السرد نزعة تبريرية واضحة؛ إذ لا يقدّم مراجعة نقدية صريحة لمسؤولية الفكر الجهادي عن الدمار الذي خلّفه، بل يميل إلى تصوير نفسه كـ”شاهد على المرحلة” لا كأحد صانعيها.
في أكثر من موضع، يستخدم لغة المظلومية لتبرير الانخراط في التنظيم، متحدثًا عن “الظلم العالمي للمسلمين”، و”خيانة الأنظمة”، و”سقوط العدالة الدولية”، في تكرارٍ للمنطق نفسه الذي غذّى خطاب القاعدة لعقود.
بين التوبة والمجد الإعلامي
من اللافت أن أبو حفص الموريتاني لم يكتفِ بإعلان توبته الفكرية، بل خاض تجربة جديدة في فضاء الإعلام والثقافة، حتى أصبح وجهًا مألوفًا في الندوات الفكرية والبرامج الحوارية.
بل إن عرض مذكراته في المعرض الدولي للكتاب برعاية رسمية أثار جدلاً واسعًا: هل هو اعتراف بمراجعة فكرية حقيقية؟ أم محاولة لتلميع وجهٍ سابقٍ من وجوه التطرف؟
ثمة من يرى أن تحويل “الرمز الجهادي” إلى “كاتب نجوم” يدخل في إطار التطبيع مع العنف، حين يصبح القتلة السابقون ضيوف شرفٍ في معارض الفكر، بينما يُهمَّش ضحاياهم من الذاكرة العامة.
مشكلة السرد: من التوبة إلى الترويج
يقدّم أبو حفص مذكراته بلغة سردية جذابة، لكنه يخلط بين الاعتراف والترويج. فبدل أن يُعالج جذور الفكر الذي انتمى إليه، يكتفي بتبرير “نية المجاهدين” و”صفاء مقاصدهم”، وكأنّ المأساة الكبرى التي عاشها العالم كانت مجرّد سوء فهم بين “أهل الحق” و”أهل السياسة”.
إنها مراجعة منقوصة، لأنها لا تتضمن اعتذارًا حقيقيًا لضحايا الإرهاب، ولا نقدًا صريحًا للمنهج الذي شرعن للعنف باسم الدين.
الظاهرة لا الشخص
القضية ليست في محفوظ ولد الوالد كشخص، بل في الظاهرة التي يمثلها: ظاهرة إعادة تأهيل رموز التطرف ضمن المشهد الثقافي والإعلامي، دون محاسبة فكرية أو أخلاقية.
فحين يتحول قادة العنف إلى كتّاب يُحتفى بهم، فإن الرسالة المبطنة إلى الأجيال الجديدة هي أن الإرهاب يمكن أن يكون طريقًا إلى المجد الإعلامي، لا إلى المساءلة.
خاتمة: ما بعد “من الإرهاب إلى الكتاب”
تبقى مذكرات أبو حفص الموريتاني وثيقة مهمة لفهم المرحلة الجهادية من الداخل، لكنها في الوقت نفسه وثيقة إشكالية، لأنها تمارس نوعًا من التجميل الرمزي للعنف تحت غطاء المراجعة الفكرية.
ولعل أخطر ما في هذا النوع من الكتابات أنها تنقل الإرهاب من ميدان الفعل إلى ميدان الفكر دون تفكيكه، فيتحول من خطرٍ أمني إلى خطرٍ ثقافي أكثر نعومةً وتأثيرًا.