ثقافة

موريتانيا : البُعد الجغرافي لا يمنع التأثير الحضاري

محمدعبدالرحمن ول عبدالله
كاتب صحفي ، انواكشوط

موريتانيا تقع على هامش الوطن العربي من حيث الجغرافيا، لكنها كانت في قلبه من حيث الرسالة الثقافية والدينية. لقد لعبت دورًا لا يقل أهمية عن مراكز الإشعاع المشرقية أو المغربية، مستفيدة من موقعها كنقطة التقاء بين المغرب العربي وإفريقيا السوداء.

■ العامل الحاسم: المحظرة الموريتانية

لا يمكن الحديث عن هذا الدور دون ذكر المحظرة، وهي نموذج فريد من التعليم التقليدي الأصيل. فقد ساهمت المحاظر في:

نشر اللغة العربية كلغة علم وتدريس.

تعليم القرآن والعلوم الإسلامية لأبناء المنطقة ولطلاب جاءوا من مالي، السنغال، النيجر، غامبيا وغيرها.

تكوين علماء ودعاة أصبحوا بدورهم رسلًا للثقافة الإسلامية في مجتمعاتهم.

المحظرة لم تكن فقط مؤسسة تعليمية، بل حركة ثقافية عابرة للحدود.

■ الروح الصوفية: قنطرة روحية وثقافية

التصوف شكل عاملاً آخر بالغ الأهمية. فالطرق الصوفية الموريتانية، خصوصًا القادرية والتيجانية، انتشرت من شنقيط إلى تمبكتو، ومنها إلى أعماق نيجيريا والنيجر وتشاد. وكان الشيوخ الموريتانيون يُنظر إليهم كمراجع علمية وروحية.

■ القوافل التجارية: الثقافة تسير على ظهور الإبل

القوافل التجارية التي انطلقت من مدن مثل شنقيط وولاتة وتيشيت لم تكن تحمل الملح والذهب فقط، بل حملت كتبًا وعلمًا وعلماء، ونشرت مع التجارة لسان العرب ودين الإسلام، في تفاعل عضوي بين الاقتصاد والثقافة.

■ الهُوية الثقافية: العروبة كخيار معرفي

موريتانيا تبنّت الهوية الثقافية العربية مبكرًا، ليس كرد فعل سياسي، بل كامتداد معرفي ووجداني. فالعربية لم تكن لغة مستوردة، بل كانت اللغة الحية للتفكير، والتعليم، والفقه، والشعر، والمراسلات اليومية. هذا منحها قوة التأثير رغم موقعها البعيد.

■ أدب وعلم شنقيط: صوتٌ وصل إلى العالم

كثير من علماء موريتانيا عُرفوا في الشرق، وكتاباتهم تُدرّس إلى اليوم، مثل:

الشيخ محمد يحيى الولاتي الذي زار الحجاز وترك آثارًا علمية.

العلامة الشنقيطي الذي استقر في المدينة المنورة وأصبح من كبار مفسري الأزهر.

الشعراء الموريتانيون الذين كتبوا بأوزان الخليل كأنهم في سوق عكاظ.

■ خلاصة

تحوّلت موريتانيا إلى جسر ثقافي وديني لأنها كانت:

تملك مشروعًا معرفيًا أصيلًا (المحظرة).

تعتمد على وسائط شعبية عابرة للحدود (القوافل، الطرق الصوفية).

تؤمن بوحدة الرسالة الإسلامية خارج منطق الدولة أو المركزية السياسية.

إنها مثال حيّ على أن المسافة الجغرافية لا تعيق الرسالة الحضارية، بل قد تمنحها أفقًا جديدًا عندما تُحمَل بالعزم واليقين والمعرفة.

زر الذهاب إلى الأعلى