ثقافة

موسم الكيطنة : ملاذا للروح ،ومورد،اقتصادي

في عمق صحراء موريتانيا، حيث تنسج الرمال قصائدها الصامتة، تعود الحياة لتنبض كل صيف في واحات آدرار عبر موسم “الكيطنة”. ليس موسمًا زراعيًا وحسب، بل فسحة اجتماعية، وطقس ثقافي، وشريان اقتصادي في قلب الجفاف. في الكيطنة، يلتقي الناس بالرطب، ويتصالحون مع الأرض، ويستعيدون ذاكرتهم الجمعية التي لا تزال عصيّة على التحديث المبتور.

■ البُعد الإنساني: هروب من ضجيج المدن إلى سكينة النخيل

موسم “الكيطنة” هو قبل كل شيء عودة إلى الأصل. تهجر العائلات المدن الكبيرة، وتشد الرحال إلى الواحات التي احتضنت طفولتهم أو تراث أجدادهم. في ظلال النخيل، تُنصب الخيام، ويُعاد ترتيب إيقاع الحياة على وقع الطبيعة: لا هواتف ترن، لا ازدحام، ولا ضغط عمل.. فقط سكون الصحراء ورائحة الرطب الناضج.

هنا، لا يحتاج الإنسان إلى كثيرٍ من المال ليشعر بالرضا؛ يكفيه أن يستفيق مع شروق الشمس على نسيمٍ بارد، ويتناول فطورًا من التمر واللبن، ويشارك في جلسات سمر مع الأقارب. الكيطنة إذًا ليست مجرد عطلة، بل هي حالة من التوازن النفسي والتصالح مع الذات.

■ البُعد الاجتماعي: موسم لمّ الشمل وإعادة نسج العلاقات

في زمن تتآكل فيه الأواصر العائلية بفعل الهجرة الداخلية والاغتراب، تأتي الكيطنة لتعيد تشكيل الخيوط المنفصلة للنسيج الاجتماعي. أبناء العمومة يلتقون مجددًا، الأجيال الجديدة تتعرّف على أصولها، والجدات يروين القصص تحت أشجار النخيل.

وتتحول الواحات خلال هذا الموسم إلى فضاء عام للمجتمع المحلي. تقام فيه الأعراس، والسهرات الشعرية، والمهرجانات التراثية. إنه موسم للفرح الجماعي وللتواصل الذي لا توفره المدن المزدحمة. حتى الأطفال يجدون في الكيطنة ملعبهم الطبيعي، يتسلقون النخل، ويجمعون التمر، ويتعلمون مهارات الحياة التي بدأت تتلاشى في واقعهم الرقمي.

■ البُعد الاقتصادي: تمرٌ.. لكن ليس فقط تمرًا

رغم الطابع الاحتفالي والروحي، فإن الكيطنة تحمل وزنًا اقتصاديًا لا يُستهان به. تعتمد آلاف الأسر في آدرار على إنتاج التمر كمصدر دخل رئيسي، حيث يُباع الرطب في الأسواق المحلية أو يُخزن للتصدير نحو مدن الداخل.
تشكل واحات آدرار –التي تحتضن أكثر من مليون نخلة– واحدة من أعمدة الأمن الغذائي التقليدي في البلاد، في وقتٍ يتصاعد فيه الحديث عن الاكتفاء الذاتي ومواجهة تقلبات السوق العالمي.

لكن المفارقة أن هذا النشاط الحيوي لا يزال محصورًا في أدوات تقليدية وبنية تحتية هشة. فلا توجد صناعات تحويلية حقيقية للتمور، ولا سلاسل تبريد أو تسويق رقمي، وهو ما يجعل العائد الاقتصادي أقل من الإمكانات المتاحة.

■ هل نخسر الكيطنة في زمن السرعة؟

ثمة مخاوف حقيقية من أن تفقد الكيطنة جوهرها في ظل النزوح المتزايد من القرى، وتهالك الواحات، وتغيّر نمط الحياة. جيل جديد لا يجد في التمر إلا طعامًا تقليديًا، ولا يرى في النخلة رمزًا بل مجرد شجرة مهملة.

وما لم تبادر الدولة إلى إدماج الكيطنة في سياسات التنمية الريفية، وتشجيع الاستثمار في زراعة النخيل، وتطوير السياحة الواحية، فإن هذا الموسم العريق قد يتحول من مصدر حياة إلى مجرد ذكرى موسمية

الكيطنة أكثر من موسم.. إنها رسالة.
رسالة تقول إن في أعماق الصحراء حياة، وفي النخلة كرامة، وفي الرطب كفاية، وفي التراث فرصًا.
هي نداء لعودة الإنسان إلى جذوره، ولصناعة نموذج تنموي لا يقتلع الناس من أرضهم، بل يبني الاقتصاد حول ثقافتهم وأسلوب حياتهم.

فهل نُصغي لهذا النداء قبل فوات الأوان؟

محمدعبدالرحمن ول عبدالله

زر الذهاب إلى الأعلى