ثقافة

حكاية إنسان : عبدو،السباحة الأخيرة نحو الحلم .!

“عبدو.. السباحة الأخيرة نحو الحلم”

حكاية إنسان ، قصة صحفية :
بقلم : محمد عبدالرحمن عبدالله
– كاتب صحفي

في صيف عام 2021، وعلى شواطئ سبتة، تكررت مشاهد لم تألفها الإنسانية إلا في أزمنة الحروب أو المآسي الكبرى. مئات من الشبان، أغلبهم من إفريقيا جنوب الصحراء، اندفعوا عبر أمواج المتوسط الباردة، يسبحون، أو يتشبثون بآمال واهية فوق إطارات مطاطية، يركضون نحو حلم بعيد اسمه “أوروبا”.

من بين هؤلاء، كان شاب سنغالي يُدعى “عبدو”، يبلغ من العمر 24 عاماً. نحيل الجسد، كثيف الشعر، يحمل في عينيه حزناً أكبر من سنوات عمره، وفي قلبه نارًا لا يطفئها إلا الأمل. عاش عبدو سنوات في المغرب بطريقة غير قانونية، اشتغل في ورش البناء، باحثاً عن لقمة عيش تسد رمق يومه، وعن فرصة تنقله إلى ضفة أخرى من الحياة.

لكن عبدو لم يكن وحده. في محاولته لعبور البحر، رافقه أخوه الأصغر، “سليمان”، ذلك الشاب الهادئ الذي كان يرى في أخيه الكبير بطلاً ومخلّصاً. سبح الاثنان معاً، وفي منتصف الطريق، داهم سليمان تعب مفاجئ. حاول عبدو إنقاذه، تمسك به، صاح مستنجداً بالموج، لكن البحر لا يُنصت لنداءات العابرين اليائسين. رحل سليمان، وبقي عبدو يسبح، ليس نحو إسبانيا فقط، بل هارباً من ذنب لم يرتكبه، ومن وجع لن يفارقه.

وصل عبدو الشاطئ الإسباني منهكاً، يترنح كمن خرج للتو من معركة خاسرة. هناك، كانت الشرطة تنتظر المهاجرين، لكن مشهداً آخر خطف الأضواء: متطوعة من الصليب الأحمر، كانت تؤدي عملها على الشاطئ، رأت عبدو ينهار باكياً، فتحاملت على صدمتها واقتربت منه، وضعت يديها حول كتفيه، فانهار في حضنها باكياً كطفل فَقَدَ كل شيء.
كان مشهداً مهيباً. صورة واحدة التقطها صحفي عابر، نقلت لحظة بكاء عبدو إلى العالم، فأصبحت رمزاً للإنسانية والرحمة وسط الفوضى. انتشرت الصورة في كبرى الصحف العالمية، وتحوّلت المتطوعة إلى أيقونة، لكن عبدو نفسه أعيد بهدوء إلى المغرب، إلى حياة الظلّ والبؤس، إلى قلبٍ مثقلٍ بجثة أخيه المفقود.

مرت ثلاث سنوات على تلك اللحظة الخالدة، تغير فيها كل شيء.. إلا عبدو. ظل يحلم، ويخطط، ويدّخر القليل من قوت يومه على أمل المحاولة مجدداً. في صيف 2024، قرر أن يمنح الحلم فرصة أخيرة. لم يخبر أحداً، لم ينشر صوره، لم يعد هناك من يهتم. عبر عبدو هذه المرة البحر بنجاح، وبلغ إسبانيا مجدداً. لم يكن يحمل غير ثيابه، واسم أخيه المنقوش على قلادة صدئة معلقة حول عنقه.

وجد عملاً كعامل بناء في أحد أحياء الأندلس، يشتغل طيلة النهار، وينام على فراش مهترئ ليلاً. لم يكن يشكو، ولم يبحث عن شهرة، بل أراد فقط حياة هادئة، فيها بعض الأمان، وشيء من الدفء. كان عبدو يبتسم، يتعلّم كلمات إسبانية قليلة، ويرسل ما يقدر عليه من نقود لأمه العجوز في السنغال، التي لم تكفّ يوماً عن الدعاء له.

لكن الحياة لم تنتظر عبدو طويلاً.

في صباح باكر من نوفمبر 2024، انهار جزء من السقالة في ورشة البناء التي يعمل بها. سقط عبدو من الطابق الرابع، ومات على الفور. لم يكن معه أحد. لم يكن له أهل في البلد، ولا حتى أوراق إقامة رسمية. دفنته بلدية المدينة في مقبرة الغرباء، وكتبوا على قبره: “شاب مجهول، سقط وهو يعمل.”

لم يكن عبدو مجهولاً. كان صوت آلاف الشباب المنسيين في زوايا القارات الفقيرة. كان جسراً هشاً بين الحلم والواقع، بين النجاة والفقد، بين أن تعيش إنساناً… وتموت رقماً.

توفي عبدو بعد أن وصل، لكنه لم يعش فعلياً. لم يعطِه العالم الوقت الكافي ليذوق طعم الحياة التي حلم بها طويلاً. رحل كما عاش: بصمت، وبعينين مفتوحتين على أفقٍ لم يتحقق.

فهل كانت الرحلة تستحق؟
ربما لم يكن عبدو يسأل هذا السؤال. ربما كان يكفيه أنه حاول، حتى وإن ابتلع البحر أخاه، وأسقطه السقف في النهاية.

لكنه عاش ومات من أجل شيء واحد: أن يكون له مكان في هذا العالم.
حتى لو لم يُمنح الوقت ليجلس فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى