الحراطين في موريتانيا: بين الاندماج الثقافي والتهميش البنيوي (جواب منهم لحراطين)

محمدعبدالرحمن ول عبدالله
كاتب صحفي ، انواكشوط .
تمثل فئة الحراطين في موريتانيا حالة سوسيولوجية معقدة، يصعب تصنيفها ضمن الأطر الكلاسيكية للهوية. فبخلاف الجماعات الإثنية التي تُعرَّف عادة باللغة والأصل العرقي والنسق الثقافي الخاص، لا يمتلك الحراطين هذه الخصائص مجتمعة؛ إذ ينتمون إلى الفضاء العربي الحساني، ويتحدثون الحسانية، ويتبنون الممارسات الصوفية والرموز الثقافية والتقاليد والممارسات الإجتماعية.المشتركة مع البيظان.
ومع ذلك، فإنهم يشكلون كيانًا اجتماعيًا متميزًا بفعل “التاريخ المشترك للاستعباد”، وما ترتب عنه من موقع طبقي دنيا داخل البنية الهرمية التقليدية. وهو ما يجعلهم أقرب إلى ما وصفه بندكت أندرسون بـ الجماعة المتخيلة، أي كيان يتشكل من خلال الذاكرة الجمعية والخطاب الاجتماعي، أكثر مما يتأسس على مقومات موضوعية صلبة.
و في السياق التقليدي، مثل الحراطين قاعدة الهرم الاجتماعي. فقد أسندت إليهم أدوار العمل اليدوي والخدمة والإنتاج، بينما احتكرت الفئات المسيطرة (القبائل البيظانية) الموارد الرمزية والمادية. هذا التوزيع لم يكن اقتصاديًا فحسب، بل اتخذ بعدًا ثقافيًا ورمزيًا، بما يتوافق مع ما يسميه بيير بورديو بـ العنف الرمزي، حيث تتحول الهيمنة الاجتماعية إلى أنماط إدراكية وقيمية تبدو طبيعية، وتعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال.
بهذا المعنى، فإن الحراطين لم يكونوا مجرد فئة مهمشة اقتصاديًا، بل كانوا موضوعًا لإقصاء مركب: اقتصادي، ثقافي ورمزي في آن واحد.
مع تشكل الدولة الحديثة وبروز التعليم والاقتصاد النقدي، ظهرت إمكانيات جديدة أمام الحراطين للارتقاء الاجتماعي. فقد صعدت نخب حراطينية عبر التعليم والعمل النقابي والسياسي، كما تمكنت بعض الأسر من تحقيق استقلال اقتصادي نسبي. إلا أن هذا الارتقاء ظل محدودًا، لأن رأس المال الرمزي (بحسب بورديو) بقي محتكرًا إلى حد كبير من قبل الفئات التقليدية، فيما واصل التمييز الرمزي والمجتمعي ملاحقة الحراطين في حياتهم اليومية.
وبالتالي، يمكن القول إن الحراطين يعيشون وضعية مفارقة: اندماج ثقافي شبه كامل داخل الفضاء العربي الحساني، يقابله إقصاء اجتماعي متجذر يجعلهم يطالبون باستمرار بإعادة تعريف موقعهم في البنية الوطنية.
غير أن هذا الصعود ظل محدود الأثر، لأسباب بنيوية عميقة. فالنظام السياسي الموريتاني، وإن منح تمثيلًا شكليًا للحراطين، أبقى على بنية السلطة والثروة موزَّعة ضمن أطر قبلية وجهوية، ما جعل المكاسب الفردية لا تتحول إلى تغيير جماعي ملموس.
لقد وجدت النخب الحراطينية نفسها بين خيارين متناقضين:
الاندماج في المنظومة القائمة بما تحمله من “رمزية بيظانية،” وبالتالي إعادة إنتاج نفس أنماط الهيمنة ولكن بوجوه جديدة.
أو الاصطفاف في خطاب احتجاجي يسعى إلى إعادة تعريف الهوية الوطنية نفسها على أساس أكثر مساواة، وهو خيار اصطدم بجمود البنى التقليدية ومقاومة شرائح واسعة من النخب الحاكمة لأي تغيير جذري.
وهنا تبرز مفارقة الهوية الحراطينية: فهي هوية مندمجة ثقافيًا – إذ لا يوجد فاصل لغوي أو ديني يميّزها عن بقية مكونات الفضاء العربي الحساني – لكنها مُقصاة بنيويًا، ما يجعلها تعيش حالة من “الاغتراب الداخلي”: مواطنون يتقاسمون مع غيرهم كل الرموز الثقافية، لكنهم لا يحصلون على نفس الحقوق أو المكانة الاجتماعية.
إن معالجة هذا الوضع تتطلب – كما يشير علماء الاجتماع السياسي – تفكيك البنية التاريخية للتراتبية الاجتماعية، عبر إصلاحات قانونية، واقتصادية، ورمزية تعيد الاعتبار لفكرة المواطنة المتساوية، وتفصل بين الانتماء الطبقي والتصنيف الهوياتي. دون ذلك، ستظل فئة الحراطين تتحرك بين الاندماج الشكلي والتهميش الفعلي، في جدلية لا تتيح للمجتمع الموريتاني أن ينجز انتقاله نحو دولة المواطنة الحديثة.







