ثقافة

حين يتكلم الدهر بلسان” النوارة “

ها هنا، عند تخوم الذاكرة ومواضع الحنين، يطلّ وجه العلامة الأديب ابراهيم ولد باب ولد الشيخ سيديا، كما يطلّ القمر على ركام الغيم بعد غيابٍ طويل…
صوته يأتي من بعيد، من حيث سارت قوافله في ليل الصحراء، حاملاً بين أضلعه وجع الفراق، وحكمة الدهر، وعِبرة المسافر الذي علّمته الطرق أكثر مما علّمته الكتب.

إنها النُّوَارَة… تلك البلدة التي لم تكن في قلبه إلا مرآةً تُعيد إليه ملامح “أمشتيل”، وتذكّره بأن الغربة لا تُقاس بالمسافات، بل بمقدار ما يُوجِعه الحنين.
هناك، حيث وطئت قدماه أرضًا غريبة، نبتت القصيدة من وجعه، وانداح صوته في أودية الشعر والعبرة، يقول:

إنَّ للدهر إن تأمّلت صرفًا ** يُكسبُ المرءَ حكمةً واعتبارا
ها أنا اليوم بالنُّوَارَ مقيمٌ ** أيُّ عهدٍ بيني وبين النوارا

كم تشبه هذه الأبيات نغمةَ الناي الحزين حين يئنّ في ليلٍ موحش!
كأنها صدى قلبٍ أدرك متأخرًا أن الزمان لا يردّ ما أخذ، وأن الأمكنة لا تُشفى من الغياب.

يا لروعة الحكمة حين تخرج من فم الحنين… ويا لوجع الشعر حين يكون ترجمانَ روحٍ تاهت بين ديار الذكرى ومنازل الفقد!
لقد كان العلامة ابراهيم ولد باب، وهو في رحلاته، يرى الدنيا كما يراها الحكماء: كتابًا مفتوحًا على تقلبات البشر، وعلى مواسم لا تعرف الثبات.
ومع كل غروبٍ، كان يشعر أن العمر نفسه رحيلٌ لا ينتهي، وأنّ النوارَة ليست إلا محطة من محطات القلب العابر نحو الخلود.

فكم من شاعرٍ اليوم لو أصغى لنداء تلك الأبيات، لعرف أن الدهر لا يُؤتمن، وأن أجمل ما يتركه الإنسان بعد سفره الطويل، ليس المال ولا الجاه، بل كلمةٌ تبقى تنزف حكمةً كلّما مر بها الزمن

في تلك الأرض، التي جمعت بين الغربة والسكينة، كتب الأديب بيتين خلّدهما الدهر كما تُخلَّد دمعةٌ على خدّ الصبر:

● إنَّ للدهر إن تأمّلت صرفًا
يُكسبُ المرءَ حكمةً واعتبارا

ها أنا اليوم بالنوارَة مقيمٌ
أيُّ عهدٍ بيني وبين النوارا

● الدهر… المعلّم القاسي

البيت الأول يحمل فلسفةَ الزمان كما أدركها الشيوخ بعد طول تجربة: أن التقلّب، مهما أوجع، هو وحده الذي يصنع الحكمة.
فيه يدعو الشاعر قارئه إلى التأمل لا التبرم، وإلى الفهم لا الشكوى.
فالدهر في نظره مدرسةٌ قاسيةٌ ولكنّها صادقة، تُكسب المرءَ اعتبارًا حين ينجو من دروسها.

● النوارَة… وطنُ الغربة ومرآةُ الحنين

في البيت الثاني، يهمس الشاعر بنداءٍ موجعٍ: «أي عهدٍ بيني وبين النوارا؟»
سؤالٌ لا ينتظر جوابًا، بل يُشبه أنين القلب حين يُحاكي الفقد.
لقد أقام جسدُه في النوارَة، لكن روحه ظلّت تحجّ إلى أمشتيل، حيث العائلة والذكريات، حيث لم يكن “الزمان” قد بدأ يختبره بعد.
هنا يتحوّل المكان إلى استعارةٍ عن كلّ غربةٍ داخلية يعيشها الإنسان حين يجد نفسه في أرضٍ لا تشبه صوته

● بين الحكمة والحنين

تغنّى الشعراء والفنانون بهذين البيتين، وردّدوهما في المجالس كأنهما صلاةٌ سرّية على أرواح الذين غابوا.
فالكلمات خرجت من قلبٍ تجرّع الفقد حتى صار يرى فيه معنى البقاء.
وفي هذا التوازن بين الوجع والحكمة تكمن عبقرية الأديب: أن يُعلّمنا كيف نرى في كل خيبةٍ درسًا، وفي كل سفرٍ نورًا جديدًا للوعي.

● الخاتمة: حين تُصبح الأمكنة مرايا للروح

لقد علّمنا إبراهيم ولد باب أن الوطن ليس ترابًا فقط، بل هو ذاكرةٌ تُسكننا أينما كنّا.
ومن هناك، من النوارَة، ارتفعت كلماته مثل نايٍ حزينٍ على صدر الرمل، لا يزال صداها حتى اليوم يوقظ فينا السؤال القديكم: كم  من نوارَةٍ في حياتنا نُقيم بها مجبرين، بينما قلوبنا لا تزال تمشي في أمشتيلها ؟!

 

محمدعبدالرحمن ول عبدالله

كاتب صحفي ،انواكشوط

 

زر الذهاب إلى الأعلى