أخبار وطنية

“عصرنة مدينة أنواكشوط”.. خمسين مليارا لم تلامس حياة المواطن

محمد عبد الرحمن ولد عبد الله
كاتب صحفي – الاتحاد

■ حلم المدينة الحديثة الذي تبخر

قبل سنوات، بشّر النظام الموريتاني بميلاد مشروع عمراني ضخم تحت اسم “عصرية نواكشوط”، رُوّج له باعتباره بوابة العاصمة إلى الحداثة والتنظيم.
قيل إنه سيقضي على العشوائيات، ويوفر مساكن لائقة، ويحول العاصمة إلى مدينة نموذجية.

لكن بعد مرور الزمن، لم يرَ المواطن من “العصرية” سوى يافطات باهتة ومباني إسمنتية متفرقة في أطراف المدينة، فيما تبخرت المليارات في دهاليز الصفقات والمكاتب المغلقة.

■ القسم الأول: مشروع بأحلام ضخمة وواقع هزيل

عند انطلاق المشروع، تم الإعلان عن ميزانية تجاوزت خمسين مليار أوقية قديمة، خُصصت لتخطيط عمراني حديث، وشق طرق، ومد شبكات كهرباء وماء وصرف صحي، وبناء وحدات سكنية جديدة.
لكن التنفيذ الميداني كشف هوةً سحيقة بين الوعود والمُنجز:

● أحياء بكاملها بقيت على حالها دون أي تدخل.

● مشاريع طرق توقفت بعد حفل الافتتاح.

● بنايات حكومية بلا تجهيزات.

● غياب شبه تام لأي متابعة هندسية أو تقييم مالي.

مصدر في وزارة الإسكان – فضّل عدم الكشف عن هويته – قال للاتحاد:

> “كانت العصرية مشروعًا سياسيًا أكثر منها عمرانيًا، صُمم للاستعراض الإعلامي وليس لخدمة السكان.”

● القسم الثاني: أين ذهبت خمسون مليار أوقية؟

تُظهر مراجعة الوثائق الرسمية والتقارير الداخلية أن المشروع تخللته عشرات الصفقات الغامضة التي لم تخضع للشفافية أو للمناقصة التنافسية.

بعض الشركات المنفذة أُسست قبيل توقيع العقود بأيام، ثم اختفت بعد استلام الدفعات.

لم تُنشر أي تقارير نهائية لمحكمة الحسابات حول مراحل الصرف أو نسب الإنجاز.

مشاريع صرفت عليها مليارات لم تتجاوز نسب إنجازها 15%.

أحد المهندسين الذين عملوا ضمن الطاقم الفني للمشروع يقول:

> “الأموال صرفت بسرعة غير مبررة، وأغلبها ذهب إلى أعمال تمهيدية لم تكتمل. لم يكن هناك تخطيط، بل ارتجال وتوجيهات فوقية”.

في المقابل، تلتزم الجهات الرسمية الصمت، ولا تُظهر أي استعداد لتقديم كشف حساب واضح للرأي العام حول مصير تلك الأموال الضخمة.

■ القسم الثالث: المواطن الغائب عن المشهد

المفارقة الصارخة أن المواطن البسيط، الذي كان يفترض أن يكون المستفيد الأول من المشروع، ظل خارج المعادلة تمامًا.

في أحياء نواكشوط الشرقية والجنوبية، ما زالت المشاهد ذاتها تتكرر:

▪︎ شوارع ترابية موحلة.

▪︎ مساكن هشة مهددة بالانهيار.

▪︎ انعدام شبكة صرف صحي.

▪︎ إنارة معدومة ومياه شحيحة.

يقول أحد سكان “عرفات”:

> “ما شفنا لا عصرية ولا حضرية.. شفنا الغبار والوعود فقط!”

أما سكان “دار النعيم” و”السبخة” فيعتبرون أن المشروع لم يكن سوى وسيلة جديدة لإقصائهم من أي تخطيط عمراني حقيقي، مقابل استفادة فئة محدودة من المضاربين العقاريين والمسؤولين السابقين.

● القسم الرابع: المطالبة بتفتيش مالي شامل

خبراء الاقتصاد العمراني يؤكدون أن الخمسين مليار أوقية التي أنفقت على “عصرية نواكشوط” تكفي لبناء مدينة جديدة كاملة الخدمات لو تم صرفها بشفافية.

ومن هنا، تتصاعد الدعوات إلى:

1. تدقيق شامل من المفتشية العامة للدولة ومحكمة الحسابات.

2. نشر أسماء الشركات والمقاولين الذين حصلوا على عقود التنفيذ.

3. مقارنة نسب الإنجاز الفعلية بالمبالغ المصروفة.

4. إجراء تقييم ميداني مستقل بإشراف البرلمان والمجتمع المدني.

● خاتمة: واجهات التنمية الزائفة

تحولت “عصرية نواكشوط” من مشروع تنموي طموح إلى رمز للهدر وسوء التسيير، وإلى دليل إضافي على الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني.

لقد أُهدرت مليارات الأوقية باسم “الحداثة”، لكن المواطن لم يلمس سوى الغبار والفوضى العمرانية.
وحين تُغيب الرقابة وتُقدّم الولاءات على الكفاءة، تصبح التنمية واجهة فاخرة لسرقة فاخرة.

زر الذهاب إلى الأعلى