مقالات

السلطة والتسلّط في موريتانيا: قراءة نقدية لواقع اقتصادي واجتماعي مأزوم

محمد عبد الرحمن ول عبدالله

صحفي إجتماعي وحقوقي

أنواكشوط – موريتانيا

 

لم يعد الجدل حول «السلطة و التسلّط» في موريتانيا نقاشًا نظريًا أو ترفًا سياسيًا، بل بات انعكاسًا مباشرًا لواقع اقتصادي واجتماعي خانق يعيشه المواطن يوميًا. فالخلط المتعمد أو غير المتعمد بين المفهومين أنتج نمطًا من الحوكمة عمّق الأزمات بدل أن يعالجها، وراكم الإحباط بدل أن يستعيد الثقة.

في بلدٍ تتفاقم فيه البطالة، وتتآكل فيه القدرة الشرائية، وتزداد فيه الفوارق الاجتماعية، يُطرح تشديد القبضة السياسية كحلٍّ سحري، وكأن القمع يمكن أن يخلق فرص عمل، أو يُصلح تعليمًا متدهورًا، أو يوفّر علاجًا لائقًا للفقراء. بعض صقور المشهد السياسي يروّجون لفكرة أن التسلّط ضمانة للاستقرار والنجاعة، بينما الواقع يُكذّبهم يومًا بعد يوم: فالتضييق على حرية التعبير، وازدواجية المعايير في العدالة، وانتقائية القرارات الإدارية والسياسية، لم تُنتج سوى مزيد من الاحتقان وانعدام الأمل.

إن أنصار «السلطة الرشيدة» – وهم موجودون رغم التهميش – يذكّرون بحقيقة جوهرية: السلطة لا تُقاس بارتفاع العصا، بل بمدى الشرعية والعدالة. السلطة الحقيقية تُمارَس عبر مؤسسات قوية، وقوانين محترمة، وثقة متبادلة بين الدولة والمجتمع. أما الدولة التي تُخضع الضعفاء وتتسامح مع الأقوياء، فهي دولة تُهدر هيبتها بيدها، حتى وإن بدت صارمة في ظاهرها.

التسلّط، في المقابل، يختزل الدولة في دائرة ضيقة، ويحوّل الاقتصاد إلى امتيازات، والوظيفة العمومية إلى غنيمة، والصفقات إلى أدوات ولاء. قد يمنح هذا النهج شعورًا زائفًا بالاستقرار، لكنه في العمق يوسّع رقعة الفقر، ويغذّي الهجرة، ويدفع الشباب إلى اليأس أو المخاطرة، ويقوّض أسس التماسك الاجتماعي. فكيف يُطلب من المواطن الصبر والانضباط، بينما يرى الفساد يُدار بانتقائية، والمحاسبة تُمارَس على الضعفاء دون غيرهم؟

إن موريتانيا، وهي تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، لا تحتاج إلى مزيد من الخوف، بل إلى مزيد من العدالة. لا تحتاج إلى قوانين تُكمِّم الأفواه، بل إلى سياسات تُطعم الأفواه. فالحوكمة الرشيدة لا تولد من القهر، بل من الثقة، ولا تُبنى بالعصا، بل بالإنصاف وتكافؤ الفرص.

ومن هذا المنطلق، يأتي هذا التذكير الموجّه إلى الرئيس محمد الشيخ ولد الغزواني، بصفته أول المودَعين للسلطة، بضرورة الكفّ عن هذا النهج التسلّطي الذي أثبت فشله اقتصاديًا واجتماعيًا قبل أن يكون سياسيًا. فـ«محاربة الفساد» حين تتحوّل إلى شعار انتقائي، لا تُقنع الجائع ولا تُنقذ الاقتصاد، بل تُستَخدم كغطاء أخلاقي لغياب إرادة إصلاح حقيقية، حيث يُطالَب المواطن بما لا يُطبَّق على دوائر النفوذ والقرب.

إن الإمعان في الضغط على أغلبية تعيش الهشاشة، والارتهان إلى أقلية انتهازية مستفيدة من المال والسلطة، لا يمكن أن يقود إلا إلى انسداد الأفق. ومع ذلك، ما يزال تصحيح المسار ممكنًا، إذا توفّرت الشجاعة السياسية للقيام بخطوات مصالحة وطنية حقيقية، تُعيد الاعتبار للسياسة كأداة خدمة عامة، لا كوسيلة إقصاء.

إن إنهاء الاحتقان السياسي، وتوسيع الفضاء العام، واحترام التعددية، ليست مطالب نخبوية، بل شروط أساسية لأي نهوض اقتصادي واجتماعي. فبلدٌ منقسم، مُحبَط، فاقد للثقة، لا يمكنه أن يبني تنمية حقيقية، مهما كثرت الخطابات والوعود.

يبقى الأمل معقودًا على أن تُدرِك السلطة أن قوتها الحقيقية لا تكمن في التسلّط، بل في القدرة على الإصلاح، وعلى مصالحة الدولة مع مجتمعها، حتى لا يتحوّل هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي السيئ إلى قطيعة تاريخية يصعب ترميمها.

زر الذهاب إلى الأعلى