من فاس إلى ولاتة.. خزانة المعرفة التي بنت صلة المغرب وشنقيط
تحقيق ثقافي:
محمد عبد الرحمن ولد عبد الله – نواكشوط
1. بو المقداد الفاسي.. ساعي العلم عبر الصحراء
تبدأ القصة من فاس، عاصمة العلم والفقه في الغرب الإسلامي، حيث بعث ملك المغرب خزانة ضخمة من الكتب والمخطوطات إلى بني ديمان في بلاد شنقيط.
اختار الملك لتلك المهمة أحد كبار علماء فاس، وهو أبو المقداد الفاسي، صاحب كتاب عيبة الشتيت في شرح مغني اللبيب، ليحمل الخزانة بنفسه عبر الصحراء الكبرى، في رحلة علمية تجاوزت البعد الجغرافي نحو رسالة رمزية أعمق: مدّ جسور المعرفة بين المشرق المغربي والجنوب الشنقيطي.
2. الشيخ محمد اليدالي.. ورع العالم وعدالة القلم
حين وصلت الخزانة إلى إيگيدي، كانت البلاد آنذاك تعيش مرحلة ازدهار علمي تقوده الزوايا، وفي مقدمتها أسرة الشيخ محمد اليدالي بن المختار اليدالي (ت. 1166هـ تقريبًا)، وهو من أبرز علماء اللغة والتصوف في المنطقة، وصاحب مؤلفات مثل الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع وحاشية على الآجرومية.
سلّم أبو المقداد الكتب إلى الشيخ اليدالي، ومعها رسالة الملك التي توضح أنها موجّهة إلى بني ديمان. وهنا تجلّى ورع اليدالي وأمانته العلمية، إذ وزّع الخزانة بعدل بين أولاد سيدي الفالي، وأولاد باركله، وأولاد باب أحمد، ولم يمنح قومه إدوداي ولا “إدابهم” شيئًا منها، لأنهم – في رأيه الفقهي النسبي – لا ينتسبون مباشرة إلى ديمان.
لم تأسره العصبية، ولم تدفعه الانتماءات الضيقة إلى تجاوز النص.
لقد فهم اليدالي الرسالة بميزان العلم لا بميزان القرابة، فكان موقفه درسًا خالدًا في الورع والأمانة الفكرية.
3. فاس وشنقيط.. طريق الكتب والعلماء
لم تكن تلك الحادثة معزولة عن سياقها التاريخي. فمنذ القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) عرفت العلاقات بين المغرب وبلاد شنقيط ازدهارًا علميًا وروحيًا واسعًا.
كانت فاس ومراكش وسجلماسة وجهات لطلاب العلم الشناقطة، الذين حملوا إليهما فقه الصحراء وحفظ القرآن ورسوخ اللغة، وعادوا منها حاملين فكر المدرسة المالكية وأسرار التصوف المغربي.
وبالمقابل، ظلت الزوايا الموريتانية – من ديمان وتكنت وآدرار إلى ولاتة وتيشيت – مراكز إشعاع روحي للمغرب وإفريقيا الغربية، حيث أسهمت في نشر الطرق الصوفية القادرية والتجانية والشاذلية، وخرّجت علماء رحالة ذاع صيتهم في الحجاز والمغرب.
4. خزانة الكتب.. منحة ملكية أم رسالة رمزية؟
يرى بعض المؤرخين أن إرسال خزانة الكتب لم يكن مجرد “هبة ملكية” بل رسالة سياسية وثقافية مزدوجة، ترمي إلى ترسيخ النفوذ الروحي المغربي في عمق الصحراء الموريتانية، من خلال دعم الزوايا العلمية التي كانت تمثّل سلطة معرفية واجتماعية مستقلة.
بينما يرى آخرون أن تلك المبادرة كانت تعبيرًا عن تقدير ملوك المغرب لعلماء شنقيط، الذين حافظوا على أصالة المذهب المالكي في وجه الانقسامات الفكرية والمذهبية التي ضربت المشرق.
وفي كلتا الحالتين، فإن الأثر العلمي لهذا التواصل لا يُنكر:
من فاس جاءت الكتب، ومن شنقيط خرج العلماء، وفي التبادل بين الطرفين تكوّن الوعي المغاربي المشترك.
5. الكتب جسور، لا حدود
لو تأملنا القصة اليوم في ضوء واقعنا الثقافي الراهن، لوجدنا أن ما فعله محمد اليدالي وأبو المقداد والملك المغربي هو بناء أول مكتبة مشتركة بين بلدين قبل نشوء الدول الحديثة.
لقد فهم أولئك الرجال أن الكتاب لا يعرف الحدود، وأنّ اللغة والعلم والتصوف كانت – قبل السياسة – أدوات توحيد حقيقية بين الشعوب.
6. الحاجة إلى استئناف الطريق
اليوم، وبعد مرور قرون على تلك الخزانة، يمكن لموريتانيا والمغرب أن يستأنفا التعاون الثقافي والعلمي بروح الأسلاف، من خلال مشاريع مشتركة لحفظ المخطوطات، وتبادل الباحثين، وإحياء طريق فاس–ولاتة كرمز ثقافي مغاربي جامع.
خاتمة: ورع اليدالي.. ميثاق للأجيال
قد نختلف في تفسير تفاصيل الحادثة، لكننا نتفق على معناها:
أنّ الورع الحقيقي ليس في الزهد عن المال، بل في الزهد عن ما ليس للإنسان حق فيه.
وأنّ بين فاس وشنقيط سطرًا كتبه التاريخ بالحبر والعلم، لا بالحدود والسياسة.








