أخبار وطنية

لا ثقة في السلطة… حين تصبح الخيانة جزءًا من معادلة الحكم

في الأنظمة الهشّة، لا تُقاس السلطة بقدرتها على الإنجاز ولا بمدى صلابة المؤسسات، بل تُقاس بمدى قدرة الحاكم على إدارة الشكوك داخل محيطه الضيق. فالتاريخ السياسي الموريتاني، منذ أول انقلاب إلى اليوم، يُظهر أن أخطر ما يواجه أي رئيس ليس ضغط الشارع، ولا المعارضة، ولا التحديات الاقتصادية… بل رجاله الذين يثق بهم أكثر من غيرهم.

السلطة هنا لا تُبنى على المؤسسات، بل على الأشخاص، وهذا وحده كفيل بجعل الثقة عبئًا لا ميزة.

● هيدالة… ثقة على حافة السذاجة

كان محمد خونا ولد هيدالة نموذجًا لثقة غير محسوبة. ففي لحظة الانقلاب عليه عام 1984، لم يسأل عن الجيش، ولا عن الضباط، ولا عن مصير البلاد. كان سؤاله الأول والأكثر إلحاحًا:
“ومعاوية… ما أخسرت فيه شي؟”

كان يؤمن أن معاوية هو آخر من يمكن أن يطعنه، لأنه شارك في صدّ انقلاب 1981 دفاعًا عن نظامه.
لكن منطق السلطة يُسقط كل الحسابات العاطفية: الرجل الذي يدافع عنك اليوم قد يجد فيك عقبة غدًا.

● معاوية… الثقة التي تحوّلت إلى بوابة الخروج

منح معاوية ولد الطايع لمحمد ولد عبد العزيز نفوذًا استثنائيًا على كتيبة الأمن الرئاسي، حتى أصبحت أقوى من مؤسسات الدولة نفسها. وفي 2003، حين واجه معاوية انقلاب صالح ولد حننا، كان عزيز هو “جدار الحماية”…

لكن جدار الحماية هذا أصبح بعد عامين فقط البوابة التي خرج منها معاوية نهائيًا من السلطة.

لم يكن الانقلاب عليه مجرد خطوة عسكرية؛ كان انهيارًا نفسيًا لرجل أدرك أن من وثق به دون حساب هو من أطاح به دون تردد.

● عزيز… آخر فصول الثقة العمياء

وثق محمد ولد عبد العزيز في رفيق السلاح محمد ولد الغزواني أكثر من ثقته في أي شخص آخر. رآه شريكًا في المسار، وامتدادًا طبيعيًا لمشروعه.
لكن السلطة لا تعرف “الامتداد الطبيعي”، بل تعرف الفرصة.
وحين أصبحت الفرصة سانحة، انفصل الطريقان، وتحولت الثقة إلى توتر مكتوم، ثم إلى مواجهة سياسية معلنة.

لم تكن القطيعة بين الرجلين خلافًا إداريًا، بل كانت انهيارًا لنموذج كامل اعتمد لعقود على ولاءات شخصية بدل مؤسسات قوية.

● لماذا تتكرر الخيانة داخل الأنظمة الموريتانية؟

  1. غياب المؤسسات: حين تصبح الدولة امتدادًا لشخص الحاكم، يصبح إسقاط الحاكم هو أسهل طريقة لتغيير اتجاه الدولة.
  2. تضخم نفوذ الحرس الضيق: حين يقوى “أهل الثقة” على حساب الحكومة والبرلمان، تتحول الثقة إلى سلاح.
  3. انعدام آليات تداول السلطة: حين لا توجد طرق طبيعية للخروج، تصبح الطرق غير الطبيعية هي البديل.
  4. ثقافة سياسية تُقدّم الولاء على الكفاءة: الولاء الشخصي يتغير خلال ساعات، أما بناء مؤسسات فيحتاج سنوات.
  5.  الحقيقة المؤلمة
  6. لا توجد ثقة دائمة داخل السلطة

في الأنظمة التي تُدار على أساس الولاءات لا القوانين، الخيانة ليست حدثًا… بل جزء من البنية.

وهكذا يصبح الحاكم الذي يخاف من الصدمة أمام المقربين منه أمام خيار واحد لا ثاني له:
أن يترك السلطة، وينصرف إلى شؤونه، قبل أن ينصرف عنه أقرب الناس إليه.

فالسلطة التي تُبنى على الأشخاص تنهار بالأشخاص.
والدولة التي تُبنى على المؤسسات… وحدها هي التي تصمد.

 

زر الذهاب إلى الأعلى