لماذا ترتفع الأسعار … ولماذا تعجز الحكومة عن ضبطها؟
تحقيق صحفي:
إعداد: محمدعبدالرحمن ول عبدالله
كاتب صحفي ، انواكشوط
منذ سنوات وسكان موريتانيا يعيشون على وقع موجات متلاحقة من ارتفاع الأسعار، تشمل المواد الغذائية الأساسية، والمحروقات، والأدوية، وحتى خدمات النقل. ورغم أن الحكومة دأبت على الإعلان عن “استراتيجيات ضبط السوق” فإن الواقع يكشف عن عطب عميق يلتهم جيوب المواطنين بلا رحمة.
هذا التحقيق يحفر في جذور الأزمة، ويتتبع أطراف الخلل من الموانئ إلى السوق، ومن مكاتب الحكومة إلى جيوب المحتكرين.
أولا: أسباب ارتفاع الأسعار
1. تبعية شبه كاملة للاستيراد
أكثر من 70% من المواد التي يستهلكها المواطن مستوردة.
وهذا يعني أن أي تغيير في أسعار النقل، أو العملة، أو سلاسل التوريد العالمية، ينعكس فورا وبقسوة على السوق المحلي.
2. ضعف القدرة التخزينية للدولة
لا تمتلك الشركة الموريتانية لتخزين المواد الغذائية ولا مفوضية الأمن الغذائي القدرة على التأثير في السوق.
المخزون الاستراتيجي محدود، وبالتالي يتحكم المستوردون في العرض، ويرفعون الأسعار متى شاؤوا.
3. تلاعب كبار المستوردين
عدد المستوردين الفعليين للمواد الأساسية أقل من 15 رجل أعمال، يتحكمون في السوق بشكل شبه كامل.
يتبادلون الأدوار بين رفع الأسعار وتقييد العرض، بينما تقف الهيئات الحكومية عاجزة عن تفكيك هذا “الكارتيل التجاري” بسبب النفوذ السياسي لهؤلاء الفاعلين.
4. انهيار منافسة القطاع التقليدي
صغار التجار فقدوا قدرتهم على المنافسة أمام لوبيات الاستيراد التي تسيطر على الأسعار من المصدر، وتفرض هامش الربح على الجملة والتقسيط، فيقتل السوق الحر ويُترك للمواطن مواجهة الوحش وحده.
5. صعود تكاليف النقل واللوجستيك
ارتفاع أسعار الوقود، وغياب رقابة على أسعار الشحن الداخلي، واهتراء الطرق، كلها عوامل ترفع أسعار السلع منذ خروجها من الميناء وحتى وصولها إلى القرية أو الحي.
6. غياب تصنيع محلي فعّال
جميع التجارب الصناعية إما ضعيفة الحجم، أو متوقفة، أو تعتمد بدورها على مواد أولية مستوردة.
النتيجة: السوق يظل مرهونا للبحر، ولتحركات الدولار، ولجشع الوسطاء.
7. انهيار قيمة الأوقية وضعف السياسة النقدية
التضخم العالمي ينعكس محليا، لكن المشكلة الأكبر هي ضعف سياسات الحد من المضاربة على العملة ودخول السوق السوداء، ما يخلق أسعار صرف غير مستقرة تؤثر في استيراد السلع.
ثانيا: أسباب عجز الحكومة عن ضبط الأسعار
1. ضعف قوة الدولة أمام لوبيات التجارة
الوزارات المعنية لا تملك الأدوات الحقيقية لضبط السوق.
لوبيات الاستيراد أقوى من القرارات الحكومية، ولها امتدادات سياسية وإعلامية.
2. غياب جهاز رقابة فعّال
إدارة حماية المستهلك تعمل بإمكانات محدودة:
عدد المفتشين قليل، الدعم اللوجستي شبه معدوم، والغرامات ضعيفة ولا تُرهب أحدا.
3. سياسات موسمية وليس إستراتيجية وطنية
كلما ارتفعت الأسعار، تعلن الحكومة عن “لجان متابعة” أو “حملات تفتيش” أو “دعم مؤقت”.
لكن لا توجد رؤية شاملة:
مخزون قوي، دعم إنتاج محلي، محاربة الاحتكار، ضبط الأسعار بالسقف القانوني.
4. خلل في إدارة الميناء والجبايات
زمن انتظار الحاويات، تعقيدات الإجراءات الجمركية، والرسوم المرتفعة كلها تضيف تكلفة إضافية على المستورد، تنعكس في النهاية على المستهلك.
5. غياب سياسة دعم للفقراء
صندوق الدعم العائلي وبرامج “تكافل” و”الأمان الغذائي” تعمل ببطء وبلا شفافية ولا تغطي كل المحتاجين.
الدعم لا يصل إلى السوق ليخفف الأسعار، بل يصل إلى مجموعات محدودة.
6. تذبذب القرارات الحكومية
الحكومة تفرض سقوف أسعار لبعض المواد ثم تتراجع، تمنع الاحتكار ثم تغض الطرف، تعلن تسهيلات للمستوردين ثم تُغرقهم في الورق والضرائب…
هذه الفوضى التنظيمية تجعل السوق بلا قائد.
ثالثا: من المستفيد؟
1. كبار المستوردين
هم اللاعب الأكبر.
يرفعون الأسعار، ويحتكرون المواد، ويتحكمون في السلسلة كاملة.
2. الوسطاء وتجار الجملة
هؤلاء يضيفون هوامش ربح مبالغ فيها مستغلين غياب رقابة.
3. شبكات المضاربة في الأحياء والأسواق
ترفع الأسعار بشكل اعتباطي، وتستفيد من الارتباك في أجهزة الرقابة.
رابعا: كيف يمكن ضبط السوق؟
1. إنشاء مخزون استراتيجي حقيقي يغطي 9 أشهر
هذا وحده يكسر تحكم المستوردين.
2. تفكيك لوبيات الاحتكار بقرارات شجاعة
فتح السوق لمستوردين جدد، مراجعة المناقصات، وتطبيق قانون المنافسة.
3. إصلاح الميناء والجباية
تبسيط الإجراءات، تقليل زمن التفريغ، وضبط رسوم الموانئ والجمارك.
4. دعم الزراعة والصناعة المحلية
إنتاج أرز محلي، حليب، زيوت، ومشتقاتها سيقلل التبعية للخارج.
5. تمكين إدارة حماية المستهلك
زيادة عدد المفتشين، رفع الغرامات، وتفعيل الرقابة الإلكترونية.
6. تسعير المواد الأساسية
إلزام المحلات بسعر موحد للسكر والأرز والزيوت في كامل التراب الوطني.
خلاصة التحقيق
ارتفاع الأسعار في موريتانيا ليس موجة عابرة، بل نتيجة تراكمات عميقة:
اقتصاد مستورد، ضعف رقابة، نفوذ لوبيات، غياب استراتيجية وطنية، وقرارات موسمية.
والحكومة، رغم التصريحات، تبدو عاجزة لأنها تواجه منظومة اقتصادية أقوى من أدواتها الحالية.
والضحية اليومية هي الأسرة الموريتانية التي تنفق أكثر من 60% من دخلها على الغذاء فقط.








