مقابلات وتحقيقات

من “بَلَّه” إلى نواكشوط: كيف فجّر ترحيل الماليين أزمة صامتة بين البلدين؟

تحقيق: محمد عبد الرحمن
ولد عبد الله – خاص

بين قرية “بَلَّه” الحدودية وساحات نواكشوط الواسعة، تدحرجت كرة الأزمة في صمت، حتى انفجرت بشكل مفاجئ في وجه التجار الموريتانيين الذين طُردوا من السوق الأسبوعي في بلدة ماليّة متاخمة، في مشهد مثّل أوضح تجلٍّ لردّ فعل شعبي غاضب على ما اعتُبر “إهانة جماعية” تعرّض لها الماليون داخل الأراضي الموريتانية.

فما الذي حدث؟ وما خلفيات هذا التصعيد غير المسبوق؟ وكيف يمكن لأزمة خافتة أن تهدد نسيجاً اجتماعياً قديماً، وتبادلًا تجارياً ظل يزدهر على إيقاع الثقة والصمت لعقود؟

المشهد: طرد التجار الموريتانيين من سوق “بَلَّه”

في نهاية الأسبوع الماضي، فوجئ عدد من التجار الموريتانيين المعتادين على التنقل لعرض بضائعهم في السوق الأسبوعي بقرية “بَلَّه” الماليّة، بمنعهم من دخول السوق وبيع سلعهم. لم تكن هناك أوامر رسمية من السلطات المحلية، بل تحركٌ شعبي من بعض المواطنين الماليين الذين اعتبروا أن وجود الموريتانيين “استفزاز”، عقب ما وصفوه بـ”الطرد المهين” لإخوتهم من موريتانيا.

يقول محمد الأمين ولد امبيريك، أحد التجار المطرودين من السوق:

> “لم نرتكب أي خطأ.. كنا نبيع كعادتنا في جوّ ودي، وفجأة قيل لنا بالحرف الواحد: عودوا من حيث أتيتم، فقد طُرد إخوتنا من عندكم!”.

ويضيف:

> “المشكلة أن السوق هذا ليس مجرد سوق، هو رابط عيش بيننا وبين إخوتنا في مالي.. صرنا فجأة غرباء”.

خلفية الأزمة: ترحيلات جماعية بصمت رسمي

خلال الأسابيع الماضية، نفذت السلطات الموريتانية، بحسب مصادر محلية وحقوقية، حملة ترحيلات شملت عشرات الماليين المقيمين داخل البلاد، خاصة في ولايات الحوضين ولعصابه وكوركول. لم تُعلن الحكومة عن تفاصيل العملية، لكن بعض المصادر الأمنية تحدثت عن “إجراءات روتينية ضد أجانب لا يملكون أوراق إقامة قانونية”.

غير أن الواقع كان أكثر تعقيداً. إذ شملت الترحيلات حسب شهادات ميدانية أسرًا استقرت منذ سنوات، وطلابًا، وحتى باعة متجولين.
يقول عبدولاي توريه، مالي من أصول سوننكية، تم ترحيله من مدينة كيهيدي:

> “لم يكن لدينا الوقت لجمع أمتعتنا. جاءت الشرطة وقالت لنا: انتهت الضيافة!”.

رد الفعل المالي: الغضب يطفو على الحدود

لم تصدر الحكومة المالية أي بيان رسمي، لكن مشاعر الغضب الشعبي في القرى الحدودية بدأت تترجم على الأرض.
يقول حاميدو ديالو، من سكان قرية “بَلَّه”:

> “الناس هنا يشعرون بالمهانة. ما يحدث لإخوتنا في موريتانيا لا يمكن السكوت عليه. نحن لا نريد العنف، لكن رد الفعل كان ضروريًا”.

وقد شارك في طرد التجار الموريتانيين شباب محليون، قالوا إنهم أرادوا إيصال “رسالة احتجاج”، لا إشعال نار الفتنة.

العلاقات بين الشعبين: قرابة أعمق من الحدود

التوتر الذي ظهر فجأة، لا يعكس واقع العلاقات العميقة بين الشعبين. على جانبي الحدود، توجد عائلات ممتدة، وصلات نسب، ومصالح تجارية، وعادات اجتماعية مشتركة.
فالحدود هنا لا تفصل، بل تجمع.

يقول الشيخ سيدي محمد ولد محمذن، من وجهاء منطقة كوبني:

> “هذه الأزمة طارئة. لسنا أمام عداء، بل أمام سوء تقدير إداري أخرج المسألة عن سياقها”.

الخطر القادم: عندما تُصبح الأسواق ضحية السياسة

تكمن خطورة هذه الأزمة في أنها تهدد شبكات التبادل التقليدي التي لطالما شكّلت عنصر استقرار في المناطق الحدودية.
فأسواق مثل “بَلَّه”، و”جكني”، و”كُورُو”، ظلت منصات تواصل أكثر منها أسواقًا لتبادل البضائع.

لكن السياسات المتسرعة، والترحيلات غير المبررة، قد تفتح الباب أمام صدامات اقتصادية واجتماعية تخرج عن السيطرة، وتغذي مشاعر الكراهية، وتفتح ثغرات أمام الجماعات المتطرفة التي تنشط أصلاً في المنطقة.

دعوات للتهدئة والاحتواء

في ظل غياب أي موقف رسمي من الجانبين، دعا ناشطون، وزعامات تقليدية، إلى الاحتكام للعقل، ووقف المعاملة بالمثل، وفتح حوار مشترك لمعالجة ملف الهجرة والتواجد الأجنبي بطرق تحفظ الكرامة، وتحمي المصالح المشتركة.

وقد اقترح بعضهم إنشاء لجنة مشتركة بين البلدين، تضم ممثلين عن السلطات الإدارية، والجماعات القبلية، والمجتمع المدني، لمعالجة القضايا الحدودية بالحوار لا بالترحيل أو الانتقام.

خاتمة: هل نتعلم من “بَلَّه”؟

تُظهر أزمة سوق “بَلَّه” هشاشة العلاقات الإدارية بين البلدين مقابل صلابة العلاقات الشعبية.
فحين يُهان فرد على الجانب الآخر من الحدود، فإن الرد لن يكون سياسيًا، بل اجتماعيًا… وتلقائيًا.

فهل تلتقط نواكشوط وباماكو الرسالة؟
أم أننا على أعتاب أزمة حدودية، لا تحتاج إلا لشرارة أخرى حتى تشتعل؟

زر الذهاب إلى الأعلى