ثقافة

هَوَسُ “البول” وميلاد الطيران الموريتاني… حين توقّفت طائرة لأجل رغبة محلية خالصة!

محمد عبد الرحمن ولد عبد الله

– الاتحاد, أنواكشوط

في بدايات الستينيات، حين كانت موريتانيا تتلمّس طريقها نحو الدولة الحديثة، وقع مشهد طريف لا يزال يُروى في الذاكرة الشعبية كأنه نكتة متقنة: أول طائرة موريتانية تقلع عام 1962 اضطُرّت للتوقّف في الأگ… ليس لعطلٍ فنّي، ولا لظرفٍ طارئ، بل لأن بعض الركاب “ألحّوا” في النزول للتبول.

كان المشهد أقرب إلى صدمة ثقافية بين عالمين: عالم الطائرة الذي يقيس الوقت بالدقائق والارتفاعات، وعالم الركاب الذين ما زالوا يتعاملون مع السفر بمنطق القوافل وراحة الطريق. وبين العالمين، وجد الملاح نفسه أسير رغبة بشرية بسيطة لا تعترف ببروتوكولات الطيران.

■ رحلة بلدٍ يتعلم الطيران… وركاب يتعلمون «ثقافة الجو»

في ذلك الزمن، كانت الطائرة بالنسبة للموريتانيين حدثًا شبه أسطوري؛ ليس وسيلة نقل فحسب، بل رمزًا لعصر جديد يُطلّ. لكن ركّاب أول رحلة كانوا يعيشون خصامًا لطيفًا بين الحداثة وأعراف البادية:
إذا أراد الواحد أن يتبول، فليتوقف الركب… ولو كان الركب هذه المرة طائرة!

لم يكن الركاب يعرفون شيئًا عن مراحيض الطائرات، أو لم يصدّقوا أنها موجودة أصلًا. كانت الثقة في التكنولوجيا محدودة، والثقة في العادات متجذّرة. وهكذا وجد الطاقم نفسه أمام خيارين:
إما أن يشرحوا مفهوم “دورة المياه على ارتفاع 10 كيلومترات”،
أو أن يهبطوا… وانتهى بهم الحال إلى اختيار الحل الشعبي: الهبوط احترامًا للركاب.

■ فاصل كوميدي في سجلّ الدولة الحديثة

توقف الطائرة في الأگ أصبح إحدى الحكايات المفصلية القادرة على تلخيص الفجوة التي كانت – ولا تزال أحيانًا – تفصل بين مشاريع التحديث ومخيال المجتمع.
هو ليس مجرد حادث طريف، بل مرآة لواقع بلدٍ كان ينتقل من مرحلة الجمل إلى عصر الطائرة في قفزة واحدة دون جسرٍ ثقافي يهيّئ الذهنيات للسفر الجديد.

■ ثقافة السفر… قبل الطيارة وبعدها

بقيت تلك الرحلة درسًا مبكرًا للطيران المدني:
أن بناء المطارات وشراء الطائرات ليس كافيًا،
فـثقافة السفر أهم من كل ذلك.
الثقافة التي تعلّم الراكب أن الهواء ليس طريقًا ترابياً يمكن التوقف فيه عند أول حاجة، وأن “المراح” لم يعد في الأگ ولا العيون، بل في زاوية صغيرة داخل الطائرة.

ومع الوقت، تعلّم الركاب، وتطورت الشركة، وتحوّلت تلك النكتة إلى رمز لطيف لبدايات مضطربة لكنها صادقة.

■ من الطرافة إلى النقد

ورغم خفة الحكاية، إلا أنها تكشف شيئًا جوهريًا:
أن مشاريع التحديث في موريتانيا كثيرًا ما تُقدَّم دون المرور بمرحلة أساسية: تهيئة الإنسان قبل البنية التحتية.
فالدولة بنت طائرة… لكنها لم تبنِ “رجل الطائرة” بعد.

اليوم، وبعد أكثر من ستين عامًا على تلك الرحلة، لا تزال الفجوة الثقافية تحكم الكثير من مشاريعنا الحديثة:
تكنولوجيا تُستورد بلا شرح،
خدمات تُطلق بلا توعية،
ومؤسسات تعمل بمنطق “نأتي بالأدوات… ثم ننتظر أن يُكيّف الناس أنفسهم معها”.

■ ختامًا

تظلّ حادثة عام 1962 واحدة من أجمل الحكايات التي تختصر بداية العلاقة بين الموريتاني والحداثة:
ركاب يطلبون توقفًا “إنسانيًا”،
وطائرة تهبط احترامًا لثقافة لم يكن بُني لها جسرٌ بعد.

إنها حكاية تُضحك… لكنها أيضًا تُعلّم.

زر الذهاب إلى الأعلى