ثقافة

نريد نُصْبٌ لِشُهَدَائنا،الَّذِينَ لَمْ يَمُرُّوا عَابِرِينَ

ملف ثقافي – الاتحاد ، إعداد : 

محمدعبدالرحمن ول عبدالله

كاتب، صحفي ، انواكشوط

 

في بلادٍ تُخفي تحت رمالها مئات الحكايات، وتخبئ في صدور شيوخها أسماءً لا تزال تُروى همسًا، يظلّ ملف شهداء المقاومة الموريتانية واحدًا من أكثر الملفات إهمالًا… وأكثرها استحقاقًا للضوء. فهؤلاء الذين وقفوا، ما بين 1903 و1934، أمام آلة استعمارٍ متوحشة، دفعوا ثمن الحرية كاملة: أرواحهم.

الأرقام ليست مجرد معطيات جامدة؛ إنها مرآة دمٍ مضى. فبحسب المؤرخ ليوفوسكي، بلغ عدد شهداء المقاومة الموريتانية 1062 شهيدًا خلال ثلاثة عقود من المواجهة. رقمٌ يشي بعنف المعارك وضراوة الأرض التي دافعت عن نفسها بأبنائها. وعلى الجانب الآخر خلّفت المواجهات 603 قتلى فرنسيين، بينهم 21 ضابطًا سقطوا بين 30 ديسمبر 1908 و14 مارس 1932… لكن الدم الفرنسي بدأ يسيل قبل هذا التاريخ بكثير.

ففي 18 مايو 1905، سقط أشهر قتلى الفرنسيين: القائد العام كزافييه كبولاني، حينما تحوّلت “سياسة الاختراق السلمي” التي كان يُبشّر بها إلى فشلٍ مدوٍّ على يد رجالٍ لم يهابوا سلطته ولا بندقيته. ما بعد كبولاني لم يكن كما قبله؛ فقد أدركت باريس أن هذه الأرض ليست صفحةً بيضاء يمكن التوقيع عليها بقلمٍ استعماري.

لاحقًا، في 16 يونيو 1906، طويت صفحة الضابط شارتون في سهوة الما، بعد أن وجد نفسه في مواجهة رجال يعرفون تضاريس المنطقة كما يعرفون معنى الكرامة. وفي العام نفسه، دوّت أخبار قتلى النيملان الأربعة: أندريو، دي فرانسي، فلري، وفليب، الذين لم تنفعهم هندستهم العسكرية في أرضٍ تقرأ نوايا الغزاة قبل خطواتهم.

ثم جاءت معركة أكجوجت 1907، لتسقط أحد أبرز القادة الفرنسيين: النقيب ريبو، قائد المركز هناك. لم يكن ريبو أقلّ تجهيزًا ولا دهاءً من غيره، لكن المقاومة لم تكن يومًا معركة سلاح فقط؛ كانت معركة روحٍ جماعية لا تهزم.


كل تلك الوقائع، وكل تلك الأسماء، لا تزال تتناثر في الكتب، وفي مخطوطات الفرنسيين، وفي روايات كبار السن… لكنها لم تتحول بعد إلى ذاكرة بصرية تُعلّم الأجيال أن الحرية لم تكن هدية من السماء، بل مهرًا دفعه رجالٌ من لحمٍ ودم.

نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى نُصْبٍ وطنيٍّ جامعٍ لشهداء المقاومة:
نصب لا يزيّن المدن فقط، بل يعيد ترتيب الذاكرة.
نصب يُعلّق على جدار الزمن أسماء الذين كُتبت أسماؤهم في التراب، ويجمع تحت ظله القرى والقبائل والتواريخ التي حاول البعض تفريقها.

ليس المطلوب تماثيل عملاقة ولا أضرحة فخمة؛ المطلوب اعترافٌ مكتوب بالحجر بأن هذه البلاد لم تولد صدفة، بل قامت على أكتاف 1062 شهيدًا حملوا البنادق والسيوف، وأقسموا أن تظلّ موريتانيا لأهلها.

إن إنشاء هذا النصب ليس مشروعًا ثقافيًا فقط، بل فعلُ عدالةٍ مؤجَّل… ودفتر حضورٍ للذين حضروا معارك لم يسمع بها الكثيرون.
إنه، ببساطة، حقّ الشهداء علينا… وحقّ الأجيال على الذاكرة.

زر الذهاب إلى الأعلى