الفساد في موريتانيا.. حين يصبح النهب وظيفة رسمية!

محمدعبدالرحمن ول عبدالله
كاتب ،صحفي ، أنواكشوط
لم يعد الفساد في موريتانيا مجرد ظاهرة طارئة، بل تحول مع مرور الزمن إلى نظامٍ قائمٍ بذاته، له رموزه وحماته، وله أدواته التي تتقن فنَّ التمويه وتزييف التقارير، حتى صار المواطن العادي يتساءل بمرارة: من يحاسب من؟
أنهت المفتشية العامة للدولة مؤخرًا جولة تفتيش شملت عددًا من الإدارات والمؤسسات العمومية، لتكشف — مجددًا — عن عمليات اختلاس وتبذير واسعة للمال العام، تورط فيها مديرون ومسؤولون كبار. لكن الصدمة لم تكن في حجم الفساد فحسب، بل في استمرار المتورطين في مناصبهم، وكأن شيئًا لم يكن!
فأيّ رسالة تُرسلها الدولة لموظفيها حين ترى أن من يسرق يُكافأ بالترقية، ومن يعبث بالمال العام يحظى بالحماية؟!
■ فساد بلا عقاب.. عقوبة بلا جريمة!
الواقع المؤلم أن الرقابة الإدارية والمالية في البلاد تحولت إلى إجراءٍ شكلي، لا يتجاوز حدود الأوراق والتقارير.
التقارير تكتب، والفضائح تُنشر، ثم… يُطوى الملف في أدراج النسيان، بينما يظلّ المفسدون يمارسون مهامهم بثقةٍ وابتسامةٍ عريضة، يوقنون أن العدالة لا تجرؤ على لمسهم.
إن غياب المحاسبة جعل الفساد يتكاثر كالأورام في جسد الدولة، فأضعف مؤسساتها، وعمّق الهوة بين المواطن والمسؤول، حتى باتت الثقة في الإدارة العمومية شبه معدومة.
■ ثروة تُنهب.. وشعبٌ يُفقَر
النتائج واضحة للجميع:
- فقرٌ متزايد رغم الموارد الطبيعية الهائلة.
- بطالةٌ خانقة في بلدٍ يفترض أن يكون غنيًّا بخيراته.
- خدماتٌ منهارة في التعليم والصحة والبنى التحتية.
كيف يمكن لدولةٍ تُنهَب ميزانياتها أن تحقق تنميةً أو تضمن كرامة مواطنيها؟
الفساد هنا ليس مجرد خطأٍ إداري، بل هو جريمةٌ اقتصادية واجتماعية تُسلب بسببها فرص العمل من الشباب، والأدوية من المرضى، والمقاعد من التلاميذ.
■ حين تغيب العدالة.. يحضر الإحباط
في كل مرة يُكشف فيها عن اختلاسٍ جديد، يعلو صوت الرأي العام مطالبًا بالتحقيق، ثم يُخمد الصوت سريعًا تحت وطأة التسويات السياسية والقبلية، حيث تُستبدل العدالة بـ”الوساطة”، وتُدفن القضايا بـ”التفاهم”.
هكذا ينهار الإيمان بالقانون، ويترسخ الإحساس بأن الدولة ليست للجميع، بل لفئةٍ محصنةٍ فوق القانون.
■ معركة الوعي قبل القانون
لن يُهزم الفساد بالقوانين وحدها، ما لم يتغير العقل الجمعي الذي يرى في السارق “ذكاءً”، وفي الصادق “سذاجةً”.
المعركة الحقيقية تبدأ من الوعي الشعبي، من الإعلام النزيه، ومن المدرسة التي تُعلّم الطفل أن المال العام ليس غنيمة، بل أمانة.
الفساد لا يسقط الحكومات فحسب، بل يُسقط الأوطان.
وموريتانيا، إن أرادت النهوض من دوامة التخلف والفقر، فعليها أن تبدأ من حيث يجب:
من محاسبة من سرق، لا من التستر عليه.







